المُفسِدون في الأرض (2)
هكذا يعتقد اليهود.. قتل غير اليهودي حلال
أن تعتبر نفسك واحداً من "شعب الله المختار", أن ترى أنك وبني قومك بشر لكم حقوق وتطلعات ومن سواكم "أغيار" لا حقوق لهم على الإطلاق, أن يُصبِح مبدأك أن "الكل أعدائي.. الكل يريدون محاربتي والقضاء عليّ، ولكي أحمي نفسي يجب أن أعاملهم بأعتى أنواع الأذى والخداع وتزييف الحقائق", أن تُحَوِل دينك من رسالة سماوية عليا راقية نزّلها الله ليجعل من الإنسان كائناً أرقى, إلى عنصرية وتعصب وتحفز ورفض دائم للآخر..
ماذا يكون هذا إلا فسادًا جديدًا في الأرض؟
نقطة التحول
عندما غزا نبوخذ نصر -الملك البابلي- مملكة يهودا, دمّر أورشليم وخرّب الهيكل وأحرق التوراة، وقسّم اليهود المأسورين ثلاثة أقسام, قسم استعبده وقسم قتله والقسم الأخير حمله معه إلى بابل فيما يُسمّى "السَبي البابلي". تلك التجربة القاسية -وما سبقها من تجارب عنيفة مع الآشوريين والمصريين من قبل- أحدثت في عقلية نسبة ضخمة من اليهود تغييرًا جوهريًا بقيت آثاره العميقة حتى الآن.
الخوف الدائم من الآخر, الافتراض المطلق لسوء نوايا المحيط, الاستعداد للإيذاء لمجرد الشك, استباحة الخداع والغش والإضرار بالآخرين لمجرد أنهم كذلك, الوحشية المفرطة في استخدام العنف مع الخصم, كلها صفات سعى رجال الدين اليهود -آنذاك- لنشرها بين قومهم, اعتقادًا منهم أنهم بذلك يُحدِثون في الشخصية اليهودية التغيير المنشود ليصبح الشعب اليهودي أكثر قدرة على التفاعل مع محيطه, خاصة بعد أن هزم قورش -مؤسس الدولة الفارسية- مملكة بابل وحرر اليهود ونقلهم إلى أرض فلسطين مجددًا. ومن المعروف أن تلك المنطقة كانت -ولفترة طويلة جدًا- ممرًا هامًا لجيوش الممالك الكبرى وساحة للمنافسة بين دول العراق ووادي النيل ومنطقتيّ الشام والأردن؛ الأمر الذي أدركه كبار رجال الدين والسياسة اليهود ورأوا أن السبيل الوحيد للتعامل معه هو تعديل الشخصية اليهودية بحيث تصبح أكثر تشككًا وعدوانية واستعدادًا للتعامل مع الآخرين بكل حدة ودون أدنى رادع عن استخدام أعتى ألوان العنف والتآمر.
ذلك التفكير كان متطرفًا للغاية وغير مُبرر, والدليل أن من بين الدول المجاورة لمملكة يهودا دولاً كانت تشغل مواقع متميزة مطموعاً فيها بشكل دائم بل وتعرضت بشكل مستمر لغزوات وهجمات, كالمملكة المصرية مثلا أو المدن الفينيقية, ومع ذلك لم تكن من سياسات حكومات تلك الدول أن تزرع في شعوبها ذلك النوع العنيف من "جنون الاضطهاد" الذي زرعه زعماء المملكة اليهودية في شعبهم.
شعب الله المختار والأغيار
اليهود كانوا من بداية بعثة موسى -عليه الصلاة والسلام- لهم, يؤمنون أنهم شعب الله المختار, وقد كانوا كذلك بالفعل, فقد كانوا وحدهم يؤمنون بالله في عالم اعتنقت فيه الشعوب مئات الآلهة من دونه عز وجل.
وقد تعددت التفسيرات لنظرية "شعب الله المختار"؛ فمنهم من قال: إنها بمثابة أمر إلهي من الله الذي اختار لليهود الذين اختيروا, ومنهم من فسرها بأنها تكريم من الله لليهود وتفضيل على العالمين. وآخرون قالوا: إنها مصير مكتوب على ما يسمى بأمة اليهود.
التفسيرات الثلاثة كانت تعني -لأي شخص عاقل- أن الاختيار يؤدي بشكل تلقائي ومنطقي لمسئولية على أكتاف المُختارين أن يكونوا عوامل نهضة للإنسانية؛ ولكن التلاعب والنظرة الضيقة للأمر جعلا كبار اليهود يأخذون من الاختيار شِق التشريف دون شِق التكليف, ونشروا بين شعبهم فكرة أن "اليهود لا تنطبق عليهم أحكام التاريخ"، وبالتالي فإن من حقهم أن يفعلوا كل ما يرون أنه في مصلحتهم دون خوف من إدانة تاريخية تسري على غيرهم إذا أخطأ.
الفساد الفكري لم يكن في مجرد وجود الإيمان باختيار الله للشعب اليهودي؛ ولكن في تفسير وتعريف المتطرفين من اليهود لذلك الاختيار. فبعد أن كان يعني وضع المسئولية الإلهية عليهم لنشر عبادة الله بين الأمم, أصبح يعني لهم التعصب للذات واحتقار من سواهم -أو من سماهم اليهود بـ"الأغيار" (جوييم)- واستباحة العدوان على دم ومال وعرض هؤلاء الأغيار, باعتبارهم "كائنات أقل منزلة من الإنسان اليهودي". وبعد أن كان تكريم الله للنفس البشرية، والأمر بصونها مستمدًا من إنسانية صاحبها بغض النظر عن جنسه ودينه وعرقه, أصبح يقتصر فقط على من كان يهوديًا؛ مما جعل العدوان على دم ومال وعرض غير اليهودي عملاً غير محرم؛ بل ربما كان مطلوبًا ومأمورًا به حسب فتاوى بعض أحبار اليهود.
ولأنهم اعتبروا أنفسهم الممسكون بمفاتيح اللعبة, سعى كبار اليهود للتلاعب بالقوانين؛ بحيث تفرق في الجزاء بين العدوان الواقع من يهودي على يهودي ومن يهودي على أحد الأغيار, بحيث تشدد العقاب على النوع الأول وتخففه -أو ربما ترفعه تمامًا- عن النوع الثاني.
ولكي يكون لتلك العملية الكبرى في تزوير الدين سند شرعي, وضع بعض رجال الدين اليهود -أثناء فترة السبي البابلي- تفسيرًا للأوامر الإلهية التوراتية والموسوية بشكل عام أطلقوا عليه اسم "التلمود", وهو لفظ مستمد من الكلمة العبرية "لامد" بمعنى "الدرس والتعلم"، اختلفت نسخه من حيث المساحة والتناول ولكنها اتفقت من حيث أنها تحتوي على الكثير من المواد التي تكرس التعصب الديني والعرقي وتزرع روح العنصرية في شخصية اليهودي المؤمن بالتلمود الذي تعتبره نسبة لا بأس بها من اليهود كتابًا أكثر قدسية من التوراة ذاتها!
ذلك التزوير في صميم الدين اليهودي, متلازمًا مع ما لرجال الدين من مكانة لدى مجتمعات الشرق القديم بشكل عام, وكذلك مع الاتجاه الطبيعي لليهود للتعلق بالروحانيات والميل للتدين خلال أزمة سبيهم وما تلاها, أديا لعملية تغيير نفسي وفكري ضخمة في شخصية معظم اليهود, بقيت آثارها حتى يومنا هذا ولكن بصور أكبر وأعمق.
الدولة الوظيفية
معظم اليهود, فيما بعد مرحلة السبي, أصبحوا شخصيات مصابة بالبارانويا, تنتظر دائمًا الأذى وتتوقعه من الآخرين وتتوجس منهم؛ مما جعل للجماعات البشرية اليهودية سمات خاصة, سواء كانت في شكل دول مستقلة أو شبه مستقلة, أو كانت في شكل جماعة تعيش كجزء من بنيان دولة.
وما كان سائدًا في العالم القديم هو شكل الدولة اليهودية كدولة وظيفية, أي دولة تنشأ وتعيش في ظل حماية دولة أو دول أكبر, ساهمت في بناء ودعم تلك الدولة لكي تؤدي وظيفة واضحة.
هذا ما كان من مملكة يهودا, فيما بعد التحرر من السبي, فخلال عهود الصراع بين ورثة الإسكندر الأكبر -السلوقيين في الشام والبطالمة في مصر- لعبت الدولة اليهودية دور الخادم المطيع لكلتا الدولتين الكبيرتين, حسب تفوق كل منهما, فإذا ارتفعت أسهم البطالمة, هرع إليهم كبار اليهود مقدمين فروض الطاعة والولاء, وإذ تفوق السلوقيون, سارع نفس الكبار لإعلان خضوعهم التام لهم. وتطور الأمر بشكل أكبر خلال عهد سيطرة الرومان على الشرق القديم؛ فقد لعبت الدولة اليهودية دور الجندي المخلص للسادة في روما, وذلك بضرب جيرانها لصالح الرومان ليسهل على هؤلاء الآخرين احتلال المنطقة دون مقاومة تذكر.
ذلك الدور المدمر للمملكة اليهودية لم يكن -بالتأكيد- العامل الأساسي في سقوط الشام ووادي النيل تحت الاحتلال الروماني البشع؛ ولكنه كان عاملاً يشير لمدى سوء نوايا تلك الجماعة البشرية واستعدادها للغدر بجيرانها "الأغيار" ظنًا بزعمائها أنهم بذلك ينقذون الشعب المختار من "الأغيار الآخرين", أي أن الأمر كان يجري من منظور "ضرب الأغيار بالأغيار". ذلك الدور كان نتيجة طبيعية للعبث الفكري المنظم بمعتقدات اليهود, من قِبل كبار علماء دينهم, وجعلهم يؤمنون بأن كل شيء مباح مع الآخرين طالما أنه يحقق مصلحة الشعب اليهودي الراقي.
الثمن
ولكن لتلك السياسة ثمن باهظ دفعه الشعب اليهودي. فذلك الدور الذي فرضه كبارهم على شعبهم خلق حالة من "توقف التاريخ". فبخلاف جيرانهم, لم ينتج اليهود -آنذاك- ثقافة حضارية كما فعل المصريون والفينيقيون والبابليون والأنباط؛ بل اقتصر دورهم على ضرب الآخرين والتعرض للضرب منهم؛ مما وطد الفكرة السائدة عنهم وقتها كجماعة لا تجيد سوى التدمير والقتال لأجل الآخرين, أي أن زعماء اليهود حولوا شعبهم بالكامل لمرتزقة لصالح غيرهم, وبدلا من أن يتعاونوا مع جيرانهم لطرد المحتل الروماني وخلق عملية تبادل حضاري شرقي كبيرة -كما كان يفعل هؤلاء الجيران- أصبحوا بمثابة معول هدم للأمم المجاورة؛ بل ولأنفسهم, فمعنى تحولهم لـ"دولة وظيفية" هو أنهم اختاروا ربط وجودهم بوظيفة محددة, طالت فترتها أو قصرت, مصيرها الانتهاء.
وهذا ما حدث, فبعد أن لعبت مملكة يهودا الدور الكبير في ضرب البطالمة والسلوقيين (خلال فترات ضعفهم وصعود نجم الرومان) وكذلك إضعاف الأنباط, وبعد أن استقر النسر الروماني على الشرق بشكل كامل, أصبح الشعب اليهودي في فلسطين مجرد عالة على روما التي أدارت وجهها له بالتجاهل أولاً, ثم كشرت له عن أنيابها وأحدثت في اليهود مجازر ومقاتل عنيفة، وانتهى الأمر بأن طرد الرومان اليهود خارج أرض فلسطين وحرموها عليهم, حتى فتحها العرب في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وسمحوا للعائلات اليهودية بالعودة إليها.
الخيط الممتد
كل تلك الكوارث التي حلت بالشعب اليهودي قديمًا كانت نتيجة طبيعية للتزييف الذي تعرضت له معتقداته عل يد قادته, تلك الجريمة التي امتد أثرها في شكل خيط طويل عبر التاريخ إلى يومنا هذا، وأصبح جزءًا من ثقافة نسبة ضخمة جدًا من اليهود. وبرغم أنهم عاشوا في سلام في عهد الحضارة الإسلامية الممتدة من الصين والهند وسيبيريا إلى الأندلس والمغرب؛ إلا أن ذلك الجرح الغائر الذي أحدثه بعض الأحبار في بابل خلال سنوات السبي, بقي أثره متوارثًا لدى بعضهم. فصحيح أن العهد العربي الإسلامي قد شهد اندماج الجماعات البشرية كلها -بما فيها اليهود- في نسيج الدولة, ومدى إسهام اليهود العرب في بناء الحضارة وصدق رغبتهم في الاندماج والذوبان في البنيان الحضاري العربي, إلا أن الفكرة المتطرفة لـ"الشعب المختار والأغيار" بقيت كورم سرطاني كامن ينتظر اللحظة المناسبة للتوحش والخروج, كأي فكر متطرف لأي جماعة بشرية أو دينية أيًا كانت؛ فالتاريخ يعلمنا أن التطرف لا يموت؛ بل يكمن.
ذلك الخيط وجد لنفسه غزلا ينسجه عندما انطلقت فكرة الصهيونية اليهودية وفكرة بناء الدولة الإسرائيلية الجديدة, كدولة وظيفية أيضًا رعتها دول كبرى هدفت من خلال تأسيسها لخدمة أغراض معينة. وكأنما لم يتعلم الذين نادوا بقيام الدولة, من اليهود, الدرس القديم. ولأن العرب من "الأغيار" فقد استباح الصهاينة أن يفعلوا كل شيء وأي شيء من أجل دعم هدفهم, من احتلال الأرض العربية بحجج واهية من نوعية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض", وتغيير هوية تلك الأرض لطمس أدلة كذب القائلين بأن فلسطين "أرض بلا شعب", وإخراج تقارير مفتراة تتهم -زورًا- الحكومات العربية, فيما بعد 1948, باضطهاد مواطنيها من اليهود وتنفيذ مجازر بحقهم, والقيام بعمليات تخريبية في الدول المجاورة, واستخدام القوة الغاشمة لضرب السكان الأصليين للأرض المحتلة.
كل تلك الجرائم يعتقد منفذوها أنها "حلال" طالما أنها بحقنا نحن "الأغيار". نعم.. هناك واقع عسير التصديق يقول: إن الصهيوني الذي يدير مذبحة أو ينفذ عملاً تآمريًا أو تخريبيًا يؤمن بشرعية ما يقوم به(!!) وأنه يخدم قضية عادلة مستعدًا للموت في سبيلها.
لا أقول إن كل اليهود يؤمنون بتلك الأفكار الهدامة -لا قديمًا ولا حديثًا- بل إن من بينهم الآن من قام لمقاومة تلك الآفات الفكرية بعد أن أدرك خطورة أثرها على اليهود والإنسانية كلها, كالبروفيسور الأمريكي اليهودي جوئل بنين أو كالمفكر الإسرائيلي د.إسرائيل شاحاك, وغيرهما. ولكن لأن صوت التطرف لا يحب أن يسمع سواه؛ فقد انطلقت الأبواق الصهيونية تهاجمهما، وكل من يفكر مثلهما, وتتهمهما بخيانة اليهودية وعصيان أوامر الله, في قلب متبجح للحقائق!
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هكذا قال الله؛ لكن للأسف, يصر بعض البشر أن يخلقوا بحماقاتهم أوزارًا وهم يريدون -عامدين- أن يحملها أبناؤهم.. وذلك التعصب والتطرف الصهيوني الدموي المدمر هو حصاد تلك البذرة السامة التي زرعها بعض أحبار اليهود في بابل منذ آلاف السنين, ليحمل وزرها أبناؤهم وأحفادهم عبر العصور!