إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن
الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب جاء بالأعاجيب في العقائد والأعمال
والأخلاق، ورأى الناس منه العجب العجاب في سائر الأحوال، الإيمان الذي من
أوتيه فقد أوتي خيرًا كثيرًا، بل جعل الله دخول الجنة موقوفًا على
الإيمان، وجعل الإيمان موقوفًا على المحبة، والمحبة موقوفة على السلام،
والسلام لا يكون من الإنسان إلا بوازع من الإيمان. الإيمان الذي يعيش به
الإنسان سعيدًا ويموت به حميدًا، فـ: ) من كان آخر كلامه لا إله إلا الله
دخل الجنة (، يقول الله: ﴿ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ *
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾ [سورة
يس آية: 25- 26]، فما ذكر الله الجنة إلا جعل أول أوصاف أهلها الإيمان.
إن
الإيمان معناه أن تعبد الله على نور من الله ترجو ثواب الله وتخاف عقاب
الله، الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة
وينقص بالمعصية نسأل الله العظيم أن يزيدنا إيمانًا ويكمله لنا، ففي
الدعاء: «اللهم أسألك إيمانًا كاملًا ويقينًا صادقًا»، وإذا تبين هذا كله
فإليكم ثمرات الإيمان وآثاره الطيبة وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة.
من
ثمرات الإيمان حبُّ الله لأهل الإيمان: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [سورة المائدة آية: 54].
الإيمان
الذي لا يعطيه الله إلا أحبابه وصفوته من خلقه: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ
اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ
آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [سورة يونس آية: 62- 63].
وفي
الحديث: ) إن الله يعطي الدنيا من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا
من يحب (، فخير وصية لك أن تحب الله بكل قلبك، وكيف لا تحب الله وما من
طرفة عين إلا وله عليك نعمة وفضل، وكل شيء قد تكون مبالغًا في حبه إلا
الله فإنك مهما أحببته فإنك لا تزال مقصرًا في حبه، والعجيب أنك إذا
أحببته أحبك، فإن تقربت منه شبرًا تقرب منك ذراعًا، وهو مع هذا كله أغنى
ما يكون عنك.
بل انظر إلى عظم محبة الله للعبد المؤمن ففي الحديث:
) وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره
مساءته (، الله أكبر ما أعظم مقام أهل الإيمان عند الله يحبون الله، والله
يحبهم ويرضون عن الله والله راضٍ عنهم.
ومن ثمرات الإيمان رضا الله
عن أهل الإيمان، يقول الله عنهم: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [سورة البينة آية: 8]
فأعز
شيء في هذه الدنيا وأعظمه رضا الله عن العبد، وإذا رضي الله عن العبد
أسعده وأرضاه وثبت قلبه على الصراط المستقيم، ويسر له الخير حيث كان
وأينما كان وأينما توجه، بل يرضى الله عنه في الدنيا ويرضى عنه عند
الممات، ويذكر أن الحسن لما مات سمع الناس هاتفًا يقول: "لقد قدم الحسن
البصري على الله وهو عنه راض"، وعلى كل بقدر كمال إيمان العبد يكون رضا
الله عنه، وفي الحديث: ) من التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه
وأسخط عليه الناس والعكس (.
ومن ثمرات الإيمان أن لهم الأمن التام،
يقول الله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ
أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [سورة الأنعام آية: 82]،
فأخبر - سبحانه - أن من وفِّق للإخلاص رزقه الله فائدتين الأمن التام
والهداية في الدنيا والآخرة، وقد فسر الأمن هنا بأنه أمن الدنيا، وقيل:
أمن الآخرة، وعلى كل إذا كمل توحيد العبد فإنه لا يخاف شيئًا سوى الله،
ففي الصحيح عن جابر قال: ) كنا إذا سافرنا تركنا أفضل ظل للنبي -صلى الله
عليه وسلم- فرأينا دوحة عظيمة فتركناها له، فجاء النبي -صلى الله عليه
وسلم- فنزل تحتها وعلق سيفه بها وجاءه أعرابي فاخترط السيف وقال: يا محمد،
من يمنعك مني؟ قال: «الله»، فسقط سيفه من يده وأخذه النبي -صلى الله عليه
وسلم- وقال له: «من يمنعك مني؟» قال: كن خير آخذٍ فعفا عنه (. وهذا يدل
على كمال توحيده – صلى الله عليه وسلم - ولن يخيب عبد تعلق بالله ولو
كادته السماوات والأرض إلا جعل الله له من بين أطباقهن فرجًا، فالمؤمن
الكامل لا يدخل الخوف قلبه أبدًا.
وقيل: المراد بالأمن أمن الآخرة
إذا خرج الناس من قبورهم حفاة عراة وبدت من الآخرة أهوالها وأصبح الناس في
خوف شديد وفزع عظيم: ﴿ أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ
يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إ ﴾ [سورة
فصلت آية: 40].
ومن ثمرات الإيمان ثبات القلوب، فمن أعظم المصائب
تقلب القلوب عن طاعة الله: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾
[سورة إبراهيم آية: 27]، فأهل الإيمان أهل ثبات ويقين لا تضرهم الفتن مهما
عظمت، ولا تقلبهم المحن مهما اشتدت لأنهم تمسكوا بحبل الله المتين.
ألزم يديك بحبل الله معتصما
فإنه الركن إن خانتك أركان
ومن
ثمرات الإيمان الهداية والرحمة: ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ ﴾ [سورة التغابن آية: 11]، وقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ
وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [سورة الأنعام آية: 82]، أي الهداية التامة في كل
أحوالهم وفي جميع شئونهم، الهداية التي لا ضلال معها.
ومن ثمرات
الإيمان لذة الطاعة وحلاوة المناجاة، ففي الحديث: ) ذاق طعم الإيمان من
رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا (، فأخبر أن للإيمان
طعمًا، فثمرة الرضا ذوق طعم الإيمان قال ابن القيم في المدارج: «هذا
الحديث عليه مدار مقامات الدين وتضمن الرضا بالربوبية والألوهية لله
سبحانه، والرضا بالرسول والانقياد له، والرضا بدينه والتسليم له، ومن
اجتمعت له هذه الطرق الأربعة فهو الصديق حقًّا نسأل الله العظيم أن يذيقنا
حلاوة المناجاة والإيمان والطاعة، وقد قيل ليحيى بن معاذ: متى يبلغ العبد
مقام الرضا؟ قال: «بأربع: يقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن
تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت».
ومن ثمرات الإيمان أن الله يدفع عن
أهله كل مكروه، يقول الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [سورة الحج
آية: 38]، يقول السعدي -رحمه الله-: «وهذا إخبار ووعد وبشارة للمؤمنين أن
الله يدافع عنهم - وذلك بسبب إيمانهم - كل شر من شرور الكفار وشرور
الوسوسة وشرور النفس والسيئات، ويخفف عنهم المكاره غاية التخفيف، وهذه
المدافعة بحسب الإيمان فمستقل ومستكثر».
ومن ثمرات الإيمان أنه إذا
كان على طاعة دعته أخرى إليها، وذلك بأن يشرح الله صدره وييسر أمره ويكون
سببًا للتوفيق لعمل آخر فيزداد بها عمل المؤمن: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى
وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾
[سورة الليل آية: 5- 7]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً
نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ﴾ [سورة الشورى آية: 23]، أي فلا يزال ميسرًا
للخير والطاعات.
ومن ثمرات الإيمان أن الله يحيي به قلب العبد
فتصبح أشجانه وأحزانه كلها لله وللآخرة ففي الحديث: ) كيف أصبحت يا حارثة؟
قال: مؤمنًا حقًّا، قال: إن لكل قول حقيقة قال: يا رسول الله، عزفت نفسي
عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا،
وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار
يتضاغون فيها (، فمن يؤمن بالله يكن للآخرة ذاكرًا وكثير التعلق بها،
وكلما جاءته طاعة نظر إلى عواقبها الحميدة يوم القيامة، فإذا صلى ركعتين
وأحس بفتور تذكر أنه سوف يفرح بها في قبره ويوم القيامة فدعاه ذلك التذكر
إلى حسن العبادة والإكثار منها.
ومن ثمرات الإيمان استغفار
الملائكة للمؤمن: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [سورة غافر آية: 7]، وهذا من أعظم فوائد الإيمان.
ومن
ثمرات الإيمان عدم تسلط الشياطين على المؤمن: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
[سورة النحل آية: 99]، فأخبر - سبحانه - في كتابه أن أعظم سبب في دفع شر
الشيطان الاستعاذة بالله منه، وبين أيضًا أن هناك سببًا أقوى في دفعه وهو
التحلي بالإيمان والتوكل.
خاتمة
يا أيها الناس إذا عرفنا
ثمرات الإيمان وفضائله فاعلموا أننا في زمن فاسد يجب علينا أن نحافظ على
عقيدتنا وعلى إيماننا وعلى ديننا، وينبغي علينا أن نحفظ أنفسنا لئلا نخرج
عن جادة الدين من حيث لا نشعر، وقد تفننت شياطين الإنس والجن بمداخل
وأساليب خفية لا نكاد نشعر بها، وقد ورد أنه في آخر الزمان أن الرجل يصبح
مؤمنًا ويمسي كافرًا والعكس، وقد تداخلت حدود الإيمان والكفر، وخفيت على
كثير من الناس.
يقول شيخنا محمد المختار حفظه الله: «إنه لما أمن
الناس من الشرك وقعوا فيه، تأتي الرجل فتقول له: إن الشرك باب عظيم وخطير
لأنه لا يقبل الله لك عملًا بدون صحة التوحيد فيقول لك: يا أخي، الناس
موحدون، الناس يقولون: لا إله إلا الله، نسأل الله العافية».
وعلى
كل فمن كمل إيمانه وخلص من الشرك فله الأمن التام والهداية التامة في
الدنيا والآخرة، وحصل على جميع فضائل الإيمان. والواجب على كل مسلم أن
يفكر كل لحظة كيف يزداد من الإيمان والعمل الصالح.
تنبيه هام: يقول
الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: «محركات القلوب إلى الله ثلاثة: المحبة
والخوف والرجاء، وأقواها المحبة وهي مقصودة لذاتها لأنها معه في الدنيا
والآخرة بخلاف الخوف فهو مقصود لغيره، فإنه يكون معه في الدنيا دون
الآخرة، فعلى قدر المحبة يكون سير العبد إلى محبوبه، والخوف يمنعه من
الخروج عن طريق المحبوب، أما الرجاء فهو حادٍ يحدو ويقود».
ويقول -رحمه الله-: «وهذا أصل عظيم يجب التنبه إليه فإنه لا يحصل للعبد العبودية بدونه، أما المحبة فأعظم شيء يحركها في القلب أمران:
الأول:
كثرة الذكر للمحبوب لأن كثرة الذكر تعلق القلب به، ولهذا أمرنا الله
بالإكثار من ذكره ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ
ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [سورة الأحزاب
آية:41- 42].
الثاني: مطالعة آلائه ونعمائه: ﴿ فَاذْكُرُوا آلَاءَ
اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [سورة الأعراف آية: 69]، وقوله تعالى:
﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [سورة النحل آية: 53]، فلا
إله إلا الله لو خرست الألسنة وصمت الآذان وعميت العيون؛ كيف يكون حالنا؟!
ولكن الله أعطانا السمع والبصر والفؤاد كله رحمة منه».
هذا، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، وعلى أتباعه بإحسان إلى يوم الدين.