لغز حكاية عازف المزمار السحري
للطفولة
طعم خاص، كل شيء فيها يكون جديدا وجميلا وجديرا بالاستكشاف، الوجوه
والشوارع والروائح والأكلات .. كل شيء .. أنا شخصيا أتذكر أيام الطفولة
بشيء من الحنين المشوب بالحزن .. أتذكر كم كنا أبرياء وطاهرين .. أتذك
ر
بنت الجيران، صديقتي الجميلة، التي كنت العب معها في كل حين، ثم كبرنا
فجأة وصار ممنوعا أن أراها وأحادثها .. أتذكر كم كانت الليالي ساحرة. وكم
كانت السماء صافية. وكم كانت رائحة جدتي زكية حين تضمني في ليالي الشتاء
الباردة لتروي لي حكاياتها الأسطورية عن الشاطر حسن وقمر الزمان وعلي بابا
.. تلك الحكايات الجميلة التي قد نحسبها مجرد خرافات بالية أكل الدهر عليها
وشرب. لكننا لو فتشنا في شخوصها جيدا، وبحثنا في تفاصيلها بعناية، لعثرنا
حتما على شيء من الواقعية المتوارية وراء حجب الخيال المسدلة. تماما كما هو
الحال مع حكايتنا هذه التي سنحملك فيها عزيزي القارئ إلى مدينة هاملن
الألمانية لنفتش معا عن أطفالها الصغار الذين لف الغموض مصيرهم لقرون من
الزمان.
عازف المزمار من هاملن (Pied Piper of Hamelin ) هي حكاية
من التراث الألماني نالت قسطا وافرا من الشهرة العالمية بعد أن كتب ونظم
عنها أدباء وشعراء كبار أمثال جوته والأخوان غريم والشاعر روبرت براوننغ.
وهي في مجملها لا تختلف كثيرا عن غيرها من الحكايات الشعبية التي تعتمد على
السحر والخوارق للقفز فوق أسوار الممكن والمعقول. ولا أحسب بأن قارئها
للمرة الأولى سيرى فيها أكثر من مجرد حكاية خرافية تنطوي على شيء من
الموعظة التي تدور حول عاقبة البخل والنكث بالعهود، بيد أن هذا الانطباع
الأولي قد لا يكون صادقا تماما، فالحكاية بحسب بعض الوثائق التاريخية ليست
مجرد خرافة وخيال، لكنها انعكاس باهت ومشوش لوقائع جرت بالفعل قبل قرون
بعيدة، وقائع تبعثرت وضاعت مجرياتها وتفاصيلها تحت عجلة الزمن التي لا
تتوقف أبدا عن الدوران فلم يتبق منها في النهاية سوى شظايا مبعثرة سنحاول
جمعها معا في هذه المقالة .. لكن دعونا نطلع على تفاصيل الحكاية أولا ..
حكاية عازف المزمار
القصة باختصار تتحدث عن مدينة هاملن الألمانية الواقعة على ضفاف نهر فيسر
والتي غزتها الجرذان فجأة بأعداد كبيرة حتى ضاق السكان ذرعا بها وأوشكوا
بسببها على ترك منازلهم والهجرة إلى مدن أخرى بعد أن فشلت جميع محاولاتهم
في التخلص منها. وفي مسعى أخير لإنقاذ المدينة أعلن رئيس بلديتها عن مكافأة
قدرها 1000 قطعة ذهبية تقدمها المدينة فورا لكل من يستطيع تخليصها من
أسراب الجرذان الغازية. ولم يمض وقت طويل على هذا الإعلان السخي حتى ظهر
عازف مزمار غريب يرتدي ملابس المهرجين زعم بأنه قادر على تخليص المدينة من
جرذانها بواسطة ألحان مزماره السحري.
سكان هاملن سخروا في بادئ
الأمر من إدعاءات الرجل، لكن سرعان ما عقدت الدهشة ألسنتهم حين شاهدوا
الجرذان الكريهة وهي تغادر جحورها بالجملة على وقع الألحان السحرية لتمضي
جميعها خلف عازف المزمار الذي قادها نحو ضفة نهر كبير خارج المدينة وجعلها
تقفز إلى مياهه لتغرق عن بكرة أبيها.
عاد فأخذ معه أطفال المدينة
وبعد قضاءه المبرم على الجرذان عاد عازف المزمار إلى المدينة مطالبا
بمكافأته، لكن سكان هاملن الجاحدين تنكروا لوعودهم السابقة ورفضوا أن يعطوه
حتى ولو قطعة ذهبية واحدة، وليتهم أكتفوا بذلك، بل كادوا أن يزجوا به في
السجن بتهمة الشعوذة وممارسة السحر. وإزاء هذا الغدر والجحود قرر عازف
المزمار أن ينتقم منهم شر انتقام، فعاد في صباح اليوم التالي بينما كان
جميع الرجال والنساء مجتمعين معا في دور العبادة احتفالا بأحد الأعياد
الدينية، وقف عند بوابة المدينة وبدأ يعزف ألحانه السحرية من جديد، وهذه
المرة كان لتلك الألحان وقعا وأثرا سحريا عجيبا على أطفال هاملن الذين ما
أن التقطت آذانهم الصغيرة تلك الموسيقى الشجية حتى تركوا منازلهم وهرولوا
نحو عازف المزمار لا يلوون على شيء، وتماما كما حدث مع الجرذان، فقد قاد
عازف المزمار الأطفال إلى خارج المدينة، لكنه لم يلقي بهم في النهر بالطبع،
وإنما آخذهم معه إلى داخل جبل كبير يقع عند أطراف مدينة هاملن واختفى هناك
مع الأطفال إلى الأبد. وقد كان ذلك بالتأكيد هو أشد وأقسى عقاب يمكن أن
يناله سكان هاملن جراء بخلهم ونكثهم للوعود والعهود. ويقال بأن الأطفال
مازالوا يعيشون حتى يومنا هذا داخل الجبل، يلعبون ويمرحون مع عازف المزمار
في مروج وحدائق سحرية تحتوي على كل ما يشتهيه الأطفال ويتوقون أليه.
هناك غموض كبير يلف حكاية عازف المزمار في ظل وجود العديد من المصادر
والشواهد التاريخية التي تزعم بأن القصة واقعية جرت أحداثها بالفعل في
أواخر القرن الثالث عشر الميلادي. ولعل أبرز تلك الشواهد هي الموجودة في
هاملن نفسها حيث ينتصب اليوم في وسط المدينة منزل قديم يعود إلى العصور
الوسطى يدعوه الناس بمنزل عازف المزمار (Rattenfängerhaus ) وبخلاف ما
يوحي به الاسم فأن عازف المزمار لم يسكن في ذلك المنزل مطلقا، لكن السبب
وراء التسمية يعود في حقيقة الأمر إلى وجود بلاطة سوداء على أحد جوانب
المنزل نقشت عليها العبارة التالية :
"في 26 يونيو / حزيران عام
1284 ميلادية .. في يوم عيد القديسين جون وبول .. مائة وثلاثون طفلا من
أطفال هاملن خدعوا واقتيدوا إلى خارج المدينة على يد عازف مزمار يرتدي
ملابس ملونة، وبعد أن عبروا التلال في كوبنبيرغ اختفوا إلى الأبد"
وهناك أيضا شارع في المدينة يعرف بأسم (Bungelosenstrasse ) يقال بأنه
كان آخر مكان شوهد فيه الأطفال قبل اختفائهم، ولهذا السبب يمتنع الأهالي عن
عزف الموسيقى داخل هذا الشارع، وهو تقليد أستمر منذ القرون الوسطى وحتى
يومنا هذا، فجميع الأعراس والجوقات الموسيقية تتوقف تماما عن العزف والغناء
عند مرورها في هذا الشارع كدلالة احترام لذكرى الأطفال المفقودين.
ومن الشواهد الأخرى وجود نافذة زجاجية ملونة داخل كنيسة السوق القديمة،
هذه النافذة صنعت عام 1384 تخليدا لذكرى مرور 100 عام على اختفاء الأطفال،
وهي تصور عازف المزمار بثيابه المبهرجة وخلفه يسير الأطفال مرتدين ملابس
النوم البيضاء، وفي الأسفل نقشت الكلمات التالية : "100 عام مضت على رحيل
أطفالنا".
المخطوطات الألمانية القديمة تطرقت هي الأخرى إلى
اختفاء الأطفال. أقدم تلك المخطوطات هي سجلات الكنيسة في هاملن والتي يعود
تاريخها إلى عام 1351، وتعتبر هذه السجلات في غاية الأهمية لأنها تمثل
شهادة حية على حقيقة ما جرى. وهناك أيضا مخطوطة ليونبيرغ التي تعود إلى عام
1370 ميلادية، والتي يؤكد كاتبها على أن أطفال هاملن خطفوا على يد عازف
مزمار يرتدي ملابس ملونة، وأن الحادثة وقعت بالفعل عام 1284.