فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُمْ(19) . سورة محمد
العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه.
وهذا
العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان، لا
يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك. والطريق إلى العلم بأنه
لا إله إلا هو أمور:
أحدها بل أعظمها:
تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته فإنها توجب
بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال
وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع:
ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم
العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داع إلى العلم، بأنه
تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس:
معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها
ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا
ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا ينصرون من عبدهم، ولا ينفعونهم
بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله
إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه.
السابع:
أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا ورأيا وصوابا، وعلما
-وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله بذلك.
الثامن:
ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية، التي تدل على التوحيد أعظم
دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته،
وغرائب خلقه.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه
لا إله إلا الله، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها، لا
بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت، وقامت
أدلة التوحيد من كل جانب، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد،
بحيث يكون كالجبال الرواسي، لا تزلزله الشبه والخيالات، ولا يزداد -على
تكرر الباطل والشبه- إلا نموا وكمالا.
هذا، وإن نظرت إلى الدليل
العظيم، والأمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن العظيم، والتأمل في آياته-
فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا
يحصل في غيره.
وقوله: ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)
أي: اطلب من الله المغفرة لذنبك، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة
والدعاء بالمغفرة، والحسنات الماحية، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم.
( و) استغفر أيضا ( للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات) فإنهم -بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة.
ومن
جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم، وإذا كان مأمورا بالاستغفار لهم
المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم، فإن من لوازم ذلك النصح لهم، وأن
يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم
بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم،
ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد
المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم.
( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) أي: تصرفاتكم وحركاتكم، وذهابكم ومجيئكم، ( وَمَثْوَاكُمْ) الذي به تستقرون، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
"تفسير السعدي "