قصة استشهاد الامام الحسين (ع)
واقعة الطف
لمّا ماتَ الحسنُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ تحرّكتِ الشِّيعةُ بالعراقِ
وكتبوا إِلى الحسينِ عليهِ السّلامُ في خلعِِ معاويةَ والبيعةِ له ،
فامتنعَ عليهم وذكرَ أنّ بينَه وبينَ معاويةَ عهداً وعقداَ لا يجوزُ له
نقضُه حتّى تمضِيَ المُدّةُ، فإِن ماتَ معاويةُ نظرَ في ذلكَ.
فلمّا ماتَ معاويةُ - وذلكَ للنِّصفِ من رجب سنة ستِّينَ منَ الهجرةِ -
كتبَ يزيدُ إِلى الوليدِ بنِ عُتْبة بن أبي سفيانَ - وكانَ على المدينةِ من
قِبَلِ معاويةَ - أن يأْخذَ الحسينَ عليهِ السّلامُ بالبيعةِ له، ولا
يُرخِّصَ له في التّأخُّرِعن ذلكَ.
فأنفذَ الوليدُ إِلى الحسينِ عليهِ
السّلامُ في الليلِ فاستدعاه ، فعَرفَ الحسينُ الّذي أرادَ فدعا جماعةً من
مواليه وأمرَهم بحملِ السِّلاحِ ، وقالَ لهم : «إِنّ الوليدَ قد استدعاني
في هذا الوقتِ ، ولستُ آمَنُ أن يُكلِّفني فيه أمراً لا أُجيبُه !ليه، وهو
غيرُ مأْمونٍ ، فكونوا معي ، فإِذا دخلتُ إِليه فاجلِسوا على البابِ ، فإِن
سمعتم صوتي قد علا فادخُلوا عليه لتمنعوه منِّي.
فصارَ الحسينُ عليهِ السّلامُ إلى الوليدِ فوجدَ عندَه مروانَ بنَ الحكمِ ،
فنعى الوليدُ إِليه معاويةَ فاسترجعَ الحسينُ عليهِ السّلامُ ، ثم قرأ
كتابَ يزيدَ وما أمرَه فيه من أخذِ البيعةِ منه له ، فقالَ له الحسينُ :
«إِنِّي لا أراكَ تَقنعُ ببيعتي ليزيدَ سرّاً حتّى أُبايعَه جهراً ، فيعرف
الناسُ ذلكَ » فقالَ الوليدُ له : أجل ، فقالَ الحسينُ عليهِ السَّلامُ :
«فتصبحُ وترى ريكَ في ذلكَ » فقالَ له الوليدُ: انصرفْ على اسمِ اللّهِ
حتّى تأْتينا معَ جماعةِ النّاسِ.
فقالَ له مروانُ : واللهِ لئن
فارقَكَ الحسينُ السّاعةَ ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلِها أبداً حتّى
يكثرَ القتلى بينَكم وبينَه ، احبسِ الرّجلَ فلا يخرج من عندِكَ حتّى
يبايعَ أوتضربَ عنقَه.
فوثبَ عندَ ذلكَ الحسينُ عليهِ السّلامُ وقالَ :
«أنتَ - يا ابنَ الزّرقاءِ- تَقتلني أو هو؟! كذبتَ واللّهِ وأثمتَ » وخرجَ
(يمشي ومعَه) مواليه حتّى اتى منزلَه.
فقالَ مروان للوليد ِ: عصيتَني ،لا واللهِ لا يُمكِّنكَ مثلَها مِن نفسِه
أبداً، فقالَ الوليدُ : (الويح لغيرك) يا مروانُ إِنَّكَ اخترتَ لي الّتي
فيها هلاكُ ديني ، واللّهِ ما أُحِبُّ أنّ لي ما طلعتْ عليه الشّمسُ وغربتْ
عنه من مالِ الدُّنيا وملكِها وأنّي قتلتُ حسيناً، سبحانَ اللهِّ ! أقتلُ
حسيناً أنْ قالَ لا أُبايعُ ؟! واللهِ إنَي لأظنُّ أنّ امراً يُحاسبُ بدمِ
الحسينِ خفيفُ الميزانِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ.
فقالَ له مروانُ : فإِذا كانَ هذا رأيك فقد أصبتَ فيما صنعتَ ؟ يقولُ هذا وهوغيرُ الحامدِ له في رأْيِه.
فأقامَ الحسينُ عليهِ السّلامُ في منزلهِ تلكَ الليلَة، وهي ليلةُ السبتِ لثلاثٍ بَقِيْنَ من رجبِ سنةَ ستَينَ.
واشتغلَ الوليدُ بنُ عُتْبةَ بمراسلةِ ابنِ الزُّبيرِ في البيعةِ ليزَيدَ وامتناعِه عليه.
وخرجَ ابنُ الزُبيرِمن ليلتِه عنِ إلمدينةِ متوجِّهاً إِلى مكّةَ ، فلمّا
أصبحَ الوليدُ سرّحَ في أثرِه الرِّجالَ ، فبعثَ راكباً من موالي بني
أُمّيةَ في ثمانينَ راكباً، فطلبوه فلم يُدرِكوه فرجعو.
فلمّا كانَ آخر (نهارِ يوم) السّبتِ بعثَ الرِّجالَ إِلى الحسينِ بنِ
عليِّ عليهما السّلامُ ليحضرَ فيبايعِ الوليدَ ليزيد بن معاويةَ، فقالَ لهم
الحسَينُ : «أصبِحوا ثمّ تَرَوْن ونرَى» فكفُّوا تلكَ الليلةَ عنه ولم
يُلِحُّوا عليه.
فخرجَ عليهِ السّلامُ من تحتِ ليلتِه - وهي ليلةُ
الأحدِ ليومين بَقِيا من رجبٍ - متوجِّهاً نحوَمكّةَ ومعَه بنوه واخوتُه
وبنوأخيه وجُلُّ أهلِ بيتهِ إلأ محمّدَ بنَ الحنفيّةِ - رضوان اللهِ عليه -
فإِنّه لمّا علمَ عزمَه على الخروجِ عنِ المدينةِ لَم يدْرِ أينَ يتوجّهُ ،
فقالَ له : يا أخي أنتَ أحبُّ النّاس إِليَّ وأعزُّهم عليَّ ولستُ
أَدّخِرُ النّصيحةَ لأحدٍ منَ الخلقِ إِلا لكَ وأَنتَ أحقُّ بها، تَنَحَّ
ببيعتِكَ عن يزيد بن معاويةَ وعنِ الأمصارِ ما استطعتَ ، ثمّ ابعثْ
رُسُلَكَ إِلى النّاسِ فادعُهم إِلى نفسِكَ ، فإِن تابَعَكَ النّاسُ
وبايَعوا لكَ حمدتَ اللهَّ على ذلكَ ، وإن أجمعَ النّاسُ على غيرِكَ لم
يَنْقُصِ اللّهُ بذلكَ دينَكَ ولا عقلَكَ ولا تَذْهَب به مروءتُكَ ولا
فضلُكَ ؛ إِنّي أخافُ أن تَدخلَ مصراً من هذه الأمصارِ فيختلف النّاسُ
بينَهم فمنهم طائفةٌ معَكَ وأُخرى عليكَ ، فيقتَتِلونَ فتكونُ أنتَ لأوّلِ
الأسِنَّةِ، فإِذا خيرُهذه الأُمّةِ كلِّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعُها
دماً وأذلُّها أهلاً، فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : «فأينَ أذهبُ يا
أخي ؟» قالَ : انزلْ مكّةَ فإِنِ اطمأنّتْ بكَ الدّارُ بها فسبيلُ ذلكَ ،
وِإن (نَبَت بك) لحقتَ بالرِّمالِ وشَعَفِ الجبالِ وخرجتَ من بلدٍ إِلى
بلدٍ ، حتّى تنظرَ(ما يصيرُأمرُ النّاسِ إِليه)، فإِنّكَ أصوبُ ما تكونُ
رأياً حينَ تستقبَلُ الأمرَ استقبالا. فقالَ : «يا أخي قد نصحتَ وأشفَقْتَ ،
وأرجو أن يكونَ رأْيُكَ سديداً موفّقاً».
فسارَ الحسينُ عليهِ السّلامُ إلى مكّةَ وهو يقرأ: ( فَخَرَجَ مِنْهَا
خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْم الظَالِميْنَ )
ولزمَ الطّريقَ الأعظمَ ، فقالَ له أهلُ بيتِه : لوتنكّبْتَ الطَّريقَ
الأَعظمَ كما صنعَ اَبنُ الزُّبيرِلئلاّ يلحقَكَ الطّلبُ ، فقالَ : «لا
واللّهِ لا أُفارقُه حتّى يقضيَ اللّهُ ما هوقاضٍ ».
ولمّا دخلَ الحسينُ مكّةَ كانَ دُخُولُه إِليها ليلةَ الجمعةِ لثلاث
مَضَيْنَ من شعبانَ ، دخلهَا وهو يقرأُ: ( وَلَمِّا تَوَجَّههَ تِلْقَاءَ
مَدْيَنَ قالَ عَسَى رَبِّيْ أنْ يَهْدِيَنيْ سَوَاءَ السَّبِيْل )ثمّ
نزلَهاوأقبلَ أهلُها يختلفونَ إِليه ، ومن كانَ بها من المعتمرينَ وأَهل
الآفَاقِ ، وابنُ الزُّبيرِ بها قد لزمَ جانبَ الكعبةِ فهو قائمٌ يصلِّي
عندَها ويطوفُ ، وياْتي الحسينَ عليهِ السّلامُ فيمن ياْتيه، فيأْتيه
اليومينِ المتواليينِ وياْتيه بينَ كلِّ يومينِ مرّةً، وهو أثقلُ خلقِ
اللهِّ على ابنِ الزُبيرِ، قد عرفَ أنّ أهلَ الحجازِ لا يُبايعونَه ما دامَ
الحسينُ عليهِ السّلامُ في البلدِ، وأنّ الحسينَ أطوعُ في النّاس منه
وأجلُ.
وبلغَ أهل الكُوفةِ هلاك معاويةَ فأرجفوا بيزيدَ، وعَرفوا خبرَ الحسينِ
عليهِ السّلامُ وامتناعَه من بيعتهِ ، وما كانَ من ابنِ الزُّبيرِ في ذلكَ ،
وخروجهما إِلى مكّةَ، فاجتمعتِ الشِّيعةُ بالكوفةِ في منزلِ سُليمان ابن
صُرَد، فذكروا هلاكَ معاويةَ فحمدوا اللهَ عليه ، فقالَ سليمانُ : إِنّ
معاويةَ قد هلكَ ، وانّ حُسَيناً قد تَقَبَّضَ على القوم ببيعتِه ، وقد
خرجَ إِلى مكّةَ، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه ، فإِن كنتم تعَلمونَ أنّكم
ناصِروه ومجاهِدو عَدوِّه (فاعلموه ، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا
الرجل في نفسه ، قالوا : لا، بل نقاتل عدوه ، ونقتل انفسنا دونه ، قال : )؛
فكَتَبُوا :
بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
للحسينِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ من سُليمان بن صُرد،والمسَيَّبِ ابن
نَجَبَةَ، ورِفاعة بن شدّادٍ ، وحبيبِ بنِ مُظاهِر، وشيعتِه من المؤمنينَ
والمسلمينَ من أهلِ الكوفةِ :
سلامٌ عليك ، فإِنّا نحمدُ إِليكَ اللهَ الّذي لا إِلهَ إلا هو.
أمّا بعدُ : فالحمدُ للّهِ الّذي قصمَ عدوَّكَ الجبّارَ العنيدَ، الّذي
انتزى على هذهِ الأمّةِ فابتَزَها أمرَها، وغصبَها فيئَها، وتأمّرَ عليها
بغيرِ رضىً منها، ثمّ قتلَ خيارَها واستبقى شِرارَها، وجعلَ مالَ اللّهِ
دُوْلةً بينَ (جبابرتِها وأغنيائها)، فبعُداً له كما بَعدَتْ ثمودُ.
إِنّه ليسَ علينا إِمامٌ ، فأقبِلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الحقِّ ؛
والنُّعمانُ بنُ بشيرٍ في قصرِ الأمارة لسْنا نجَمِّعُ معَه في جمعةٍ ولا
نخرجُ معَه إِلى عيدٍ ، ولوقد بَلَغَنا أنّكَ أَقبلتَ إِلينا أخرَجْناه
حتّى نُلحقَه بالشّامِ إِن شاءَ اللّهُ.
ثمّ سرّحوا الكتابَ معَ عبدِاللهِ بنِ مِسْمَعٍ الهَمْدانيّ وعبدِاللّهِ
ابنِ والٍ ، وأمروهما بالنّجاءِ، فخرجا مُسرِعَيْنِ حتّى قدما على الحسينِ
عليهِ السّلامُ بمكّةَ، لعشرٍ مَضَيْنَ من شهرِ رمضانَ.
(ولبثَ أهلُ الكُوفةِ يومينِ بعدَ تسريحِهم) بالكتاب ، وأنفذوا قيسَ بنَ
مُسْهِرٍ الصَّيْداويّ و (عبدَ الرّحمن بن عبدِ الله الأرحبّي ) وعمارةَ
ابنَ عبدٍ السّلوليّ إِلى الحسينِ عليهِ السّلام ومعَهم نحوٌ من مائةٍ
وخمسينَ صحيفةً منَ الرّجلِ والاثنينِ والأربعةِ.
ثمّ لبثوا يومينِ آخرينِ وسرّحوا إِليه هانئ بنَ هانئ السّبيعيّ وسعيدَ
بنَ عبدِاللهِّ الحنفيّ ، وكتبوا إِليه : بسمِ اللهِّ الرّحمنِ الرّحيمِ ،
للحسينِ بنِ عليٍّ من شيعتهِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ.
أمّا بعدُ: فحيَّ هلا، فإِنّ النّاسَ ينتظرونَكَ ، لا رأيَ لهم غيركَ ، فالعجلَ العجلَ ، ثمّ العجلَ العجلَ ،والسلامُ.
وكتبَ شَبَثُ بنُ رِبعيّ وحجَّارُ بنُ أبجرَ ويزيدُ بنً الحارثِ بنِ
رُوَيمٍ و(عروةُ بنُ قيسٍ) ، وعمروبنُ الحجّاجِ الزّبيديّ و(محمّد بنُ عمرو
التّيميّ): أمّا بعدُ : فقد اخضرَّ الجَناب وأينعتِ الثِّمارُ، فإِذا شئتَ
فاقدمْ على جُندٍ لكَ مجنَّدٍ ، والسّلامُ.
وتلاقتِ الرُسّلُ كلًّها عندَه ، فقرأ الكُتُبَ وسألَ الرّسلَ عنِ النّاسِ
، ثمّ كتبَ معَ هانئ بنِ هانئ وسعيدِ بنِ عبدِاللّهِ وكانا آخرَ الرُّسُلَ
:
« بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ
منَ الحسينِ بنِ عليٍّ
إِلى الملإِ منَ المسلمينَ والمؤمنينَ.
أمّا بعد : فإِنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخرَ من قدمَ
عليَّ من رسلِكم ، وقد فهمت كلَّ الّذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جُلِّكم :
أنّه ليسَ علينا إِمامٌ فأقبلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الهدى
والحقِّ.
وإِنِّي باعثٌ إِليكم أخي وابنَ عمِّي وثقتي من أهلِ بيتي ،
فإِن كتبَ إِليَّ أنّه قدِ اجتمعَ رأيُ مَلَئِكم وذوي الحِجا والفضلِ منكم
على مثلِ ما قدمتْ به رُسُلُكم وقرأتُ في كُتُبِكم ، أقدم عليكم وشيكاً
إِن شاءَ اللّهُ.
فَلعَمري ما الأمامُ إلأ الحاكمُ بالكتاب ، القائمُ
بالقسطِ ، الدّائنُ بدينِ الحقِّ ، الحابسُ نفسَه على ذَاتِ اللّهِ ،
والسّلامُ ».
ودعا الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما السّلامُ مسلمَ بنَ عقيلِ بنِ أَبي طالبِ
رضيَ اللهُّ عنه فسرَّحَه معَ قيسِ بنِ مُسْهِرِ الصّيداويّ وعُمارة بن
عبدٍ السَّلوليّ وعبدِ الرّحمنِ بنِ عبدِاللّهِ الأَرحبي ، وأَمرَه بتقوى
اللهِّ وكتمانِ أمرِه واللطفِ ، فإِنْ رأَى النّاسَ مجتمعينَ مُسْتوسِقِينَ
عَجَّلَ إِليه بذلكَ.
فأقبلَ مسلمٌ حتّى أَتى المدينةَ فصلّى في مسجدِ رسولِ اللّهِ صلّى اللّهُ
عليهِ والهِ وودعِ من أَحبَّ من أَهلِه ثمّ استأْجرَ دليلينِ من قيس ،
فأقبلا به يتنكّبانِ الطّريقَ ، فضلاّ وأصابَهم عطشٌ شديدٌ فعجزا عنِ
السّيرِ، فأومئا له إِلى سَنَنِ الطّريقِ بعدَ أنْ لاحَ لهما ذلكَ ، فسلكَ
مسلمٌ ذلكَ السَّنَنَ وماتَ الدّليلانِ عطشاً.
فكتبَ مسلم بنُ عقيلٍ - رحمهَ اللّهُ - منَ الموضعِ المعروفِ بالمضيقِ معَ
قيسِ بنِ مُسْهِرٍ : أمّا بعدُ: فإِنّني أقبلتُ منَ المدينةِ معَ دليلينِ
لي فجارَا عنِ الطّريقِ فضلاّ واشتدَّ علينا، العطشُ فلم يلبثا أن ماتا،
وأقبلْنا حتّى انتهينا إِلى الماءِ فلم نَنْجُ إلاّ بحُشاشةِ أَنفسِنا،
وذلكَ الماءُ بمكانٍ يدعى المضيقَ من بطنِ الخَبْتِ ، وقد تطيَّرتُ من وجهي
هذا ، فإِنْ رأَيتَ أَعفيتَني منه وبعثتَ غيري ، والسّلامُ.
فكتبَ إِليه الحسينُ بنُ عليٍّ عليهما السّلام :
«أمّا بعدُ : فقد خَشيتُ أن لا يكونَ حَمَلَكَ على الكتابِ إِليَّ في
الاستعفاءِ منَ الوجهِ الّذي وجّهتُك له إلاّ الجُبْنُ ، فامضِ لوجهِكَ
الّذي وجّهتُكَ له ، والسّلامُ ».
فلمّا قرأَ مسلمٌ الكتابَ قالَ : أَمّا هذا فلستُ أتخوّفُه على نفسي.
فأَقبلَ حتّى مرَّ بماءٍ لِطَيءٍ فنزلَ به ثمّ ارتحلَ منه ، فإِذا رجلٌ
يرمي الصّيدَ فنظرَ إِليه قد رمى ظَبْياً حينَ أشرفَ له فصرعَه ، فقالَ
مسلمٌ : نقتلُ عدوَّنا إِن شاءَ اللهُّ.
ثمّ أَقبلَ حتّى دخلَ الكوفةَ، فنزلَ في دار المختارِ بنِ أَبي عُبَيْدٍ ، وهي الّتي تدعى اليومَ دارَ سَلْمِ بنِ المسيَّب.
وَأَقبلتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه ، فكلما اجتمعَ إِليه منهم جماعةٌ قرأَ
عليهَم كتابَ الحسينِ بنِ عليٍّ عليهما السّلامُ وهم يبكونَ ، وبايعَه
النّاسُ حتّى بايَعَه منهم ثمانيةَ عشرَ أَلفاً، فكتبَ مسلمٌ رحمه اللّه
إِلى الحسينِ عليهِ السّلامُ يُخبرهُ ببيعةِ ثمانيةَ عشرَأَلفاً ويأْمرُه
بالقدوم.
وجعلت الشِّيعةُ تختلفُ إِلى مسلمِ بنِ عقيلٍ رضيَ اللهَّ عنه
حتّى عُلِمَ مكانُه ، فبلغَ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ ذلكَ - وكانَ والياً على
الكوفةِ من قِبَلِ معاويةَ فأقرَّه يزيدُ عليها - فصعدَ المنبرَ فحمدَ
اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ :
أمّا بعدُ: فاتّقوا اللّهَ - عبادَ اللّه - ولا تُسارعوا إِلى الفتنةِ
والفُرقةِ، فإِنّ فيها يَهْلِك الرِّجالُ ، وتُسْفَكُ الدِّماءُ ،
وتُغْتَصَبُ الأَموالُ ، إِنّي لا أُقاتلُ من لا يُقاتلني ، ولا آتي على
من لم يأْتِ عليَّ ، ولا أُنبِّهُ نائمَكم ، ولا أتحرّشُ بكم ، ولا آخُذُ
بالقَرْفِ ولا الظِّنّةِ ولا التُّهمةِ، ولكنَّكم إِن أبديتم صفحتَكم لي
ونكثتم بيعتَكم وخالفتم إِمامَكم ، فوَاللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه ،
لأضربَنَّكم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي ، ولو لم يكنْ لي منكم ناصرٌ.
أما إِنِّي أرجو أن يكونَ من يعرفً الحقَّ منكم أَكثرَ ممّن يُرديه الباطلُ.
فقامَ إِليه عبدُاللّه بن مسلمِ بن ربيعةَ الحضرميّ ، حليف بني أُميّةَ،
فقالَ : إِنَّه لا يُصلحُ ما ترى إِلاّ الغَشْمُ ؛ إنَّ هذا الّذي أَنتَ
عليه فيما بينَكَ وبينَ عدوِّكَ رأيُ المستضعفينَ.
فقالَ له النُّعمانُ : أَكون من المستضعفينَ في طاعةِ اللهِّ ، أَحبّ إِليَّ من أَن أكونَ من الأَعزِّينَ في معصيةِ اللّهِ.
ثمّ نزلَ.
وخرجَ عبداللهِّ بن مسلمٍ فكتبَ إِلى يزيد بن معاويةَ : أَمّا بعدُ :
فإِنّ مُسلمَ بنَ عقيلٍ قد قدمَ الكوفَة، فبايعَتْه الشِّيعةُ للحسينِ بنِ
عليِّ ، فإِنْ يَكُ لكَ في الكوفةِ حاجة فابعثْ إِليها رجلاً قويّاً،
يُنَفِّذُ أَمرَكَ وَيعملُ مثلَ عملِكَ في عدوِّكَ ، فإِنّ النُّعمانَ بنَ
بشيرٍ رجلٌ ضعيفٌ أو هو يَتَضعَّفُ.
ثمّ كتبَ إِليه عُمارةُ بنُ عُقْبَةَ بنحوٍ من كتابه ؟ ثمّ كتبَ إِليه عُمَرُ ابنُ سعدِ بنِ أَبي وقّاصٍ مثلَ ذلكَ.
فلمّا وصلتِ الكتبُ إِلى يزيدَ دعا سَرْجُونَ مولى معاويةَ فقالَ : ما
رأْيُكَ ؟ إِنَّ حسيناً قد وجّهَ إِلى الكوفةِ مسلمَ بنَ عقيل يُبايِعُ له ،
وقد بَلَغَني عنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ ضعفٌ وقولٌ سَيئ، فمَنْ تَرى أَن
أَستعملَ على الكوفةِ؟ وكانَ يزيدُ عاتباً على عُبيدِاللهِّ بن زيادٍ ؟
فقالَ له سَرْجُون : أرأيتَ معاويةَ لو نُشِرَ لكَ حيّاً أَما كنتَ اخَذاً
برأْيه ؟ قالَ : نعم.
قال : فأخرجَ سرجُونُ عهدَ عبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ
على الكوفةِ وقاَلَ : هذا رأْيُ معاويةَ، ماتَ وقد أمرَ بهذا الكتاب ،
فضُمَّ المِصرينِ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ ، فقالَ له يزيدُ : أفْعَلُ ،
ابعثْ بعهدِ عَبيدِاللهِّ إِليه.
ثمّ دعا مسلمَ بنَ عَمرو الباهليّ
وكتبَ إِلى عبيدِاللّهِ بن زيادٍ معَه :
أَمّا بعدُ : فإِنّهَ كَتَبَ إِليَّ شيعتي من أَهلِ الكُوفةِ ، يُخبروني
أنّ ابن عقيلٍ بها يَجمعُ الجمُوعَ ويشقُّ عصا المسلمينَ ، فسِرْحينَ تقرأ
كتابي هذا حتّى تأْتيَ الكوفةَ، فتطلب ابنَ عقيلٍ طَلَبَ الخرزَةِ حتّى
تَثْقَفَهُ فتُوثقَهُ أَو تَقْتُلَهُ أَو تَنْفِيَهُ ، والسّلامُ.
وسلّمَ إِليه عهدَه على الكوفةِ.
فسارَ مسلمُ بنُ عمرو حتّى قدمَ على
عُبيدِاللّهِ بالبصرةِ ، فأوصلَ إِليه العهدَ والكتابَ ، فأمَرَ
عُبيدُاللهِّ بالجهازِ من وقتهِ ، والمسيرِ والتّهيًّؤ إِلى الكوفةِ منَ
الغدِ، ثمّ خرجَ منَ البصرةِ واستخلفَ أَخاه عًثمانَ ، وأَقبلَ إلى الكوفةِ
ومعَه مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ وشريكُ بنُ أَعْوَرَ الحارثيّ وحَشَمُه
وأَهلُ بيتهِ ، حتّى دخلَ الكوفةَ وعليه عمامةٌ سوداءُ وهو متَلثِّمٌ ،
والنّاسُ قد بلغَهم إِقبالُ الحسينِ عليهِ السّلامُ إِليهم فهم ينتظرونَ
قدومَه ، فظنُّوا حينَ رأوا عُبيدَاللّهِ أَنّه الحسينُ ، فأَخذَ لا
يَمُرُّ على جماعةٍ منَ النّاسِ إلاّ سلَّموا عليهِ وقالوا: مرحباً بابنِ
رسولِ اللهِّ ، قدمتَ خيرَ مقدم.
فرأَى من تَباشرُهم بالحسينِ ما ساءه ، فقالَ مسلمُ بنُ عمرو لمّا أَكثروا : تَأخَّرُوا ، هذا الأَميرُ عبيدُاللّه بن زيادٍ.
وسارَ حتّى وافى القصرَ في الليلِ ، ومعَه جماعةٌ قدِ التفُّوا به لا
يَشُكُّون أَنّه الحسينُ عليهِ السّلامُ ، فأَغلقَ النًّعمانُ بنُ بشيرٍ
عليه وعلى حامّتهِ ، فناداه بعضُ من كانَ معَه ليفتح لهم البابَ ، فأطّلعَ
إِليه النُّعمانُ وهو يظنُّه الحسين فقالَ : أَنْشُدُكَ اللهَّ إلاّ
تَنَحَّيْتَ ، واللهِّ ما انا مُسلمٌ إِليكَ أمانتي ، وما لي في قتالِكَ من
أَرَبٍ ، فجعلَ لا يُكلّمُه ، ثمّ إِنّه دنا وتدلّى النُّعمانُ من شَرَفٍ
فجعلَ يُكلِّمُه ، فقالَ : افتحْ لا فَتَحْتَ ، فقد طالَ ليلكَ.
وسمعَها إِنسانٌ خلفَه فنكصَ إِلى القوم الّذينَ اتّبعوه من أهلِ الكوفةِ
على أَنّه الحسينُ فقالَ : أيْ قوم ! ابن مَرْجَانةَ والّذي لا إِلهَ
غيرهُ.
ففتحَ له النُّعمانُ ودخلَ وضربوا البابَ في وُجوهِ النّاسِ فانْفَضُّوا.
وأصبحَ فنادى في النّاسِ : الصّلاةُ جامعةٌ.
فاجتمعَ النّاسُ ، فخرجَ
إِليهم فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ :
أَمّا بعدُ : فإِنّ أَميرَ المؤمنينَ وَلاَّني مِصرَكم وثَغْرَكم وفيئكم ،
وأمرَني بإِنصافِ مظلومِكم وإِعطاءِ محرومكم ، والأحسانِ إِلى سامعِكم
ومُطيعِكم كالوالدِ البر، وسوطي وسيفي على من تركَ أمري وخالفَ عهدي،
فليُبقِ امرؤٌ على نفسِه؛ الصِّدقُ يُنبي عنك، لا الوعيدُ.
ثمّ نزلَ فأَخذَ العُرَفاءَ والنّاسَ أخذاً شديداً فقالَ : اكتُبوا إِلى
العُرفاءِ ومَنْ فيكم من طلبةِ أمير المؤمنين ، ومَنْ فيكم منَ الحَرُورِية
وأَهلِ الرّيب ، الّذين رأيُهم الخلافُ والشِّقاق ، (فمن يجئ بهم لنا
فبرئ) ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمنْ لنا ما في عِرافتِه ألاّ يخالفَنا
منهم مخالفٌ ، ولا يبغِ علينا منهم باغٍ ، فمن لم يفعلْ برئتْ منه
الذِّمّةُ وحلالٌ لنا دمُه ومالُه ، وأيّما عريفٍ وُجدَ في عرافتِه مِن
بُغيةِ أميرِ المؤمنينَ أحدٌ لم يرفعْه إِلينا، صلِبَ على باب داره ،
واُلغيتْ تلكَ العرافةُ منَ العطاءِ.َ
ولمّا سمعَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رحمَه اللهُّ بمجيءِ عبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ
الكوفةَ، ومقالتهِ الّتي قالَها، وما أخذَ به العُرفاءَ والنّاسَ ، خرجَ من
دارِ المختارِ حتّى انتهى إِلى دارِ هانئ بنِ عُروةَ فدخلَها، وأخذتِ
الشِّيعةُ تختلفُ إِليه فِى دارِ هانئ على تستُّرٍ واستخفاف من عبيدِاللهِّ
، وتواصَوْا بالكتمانِ.
فدعا ابنُ زيادٍ مولىً له يُقالُ له مَعْقلٌ ، فقالَ : خُذْ ثلاثةَ آلافِ
دِرهمٍ ، ثمّ اطلبْ مسلمَ بنَ عقيلٍ والتمسْ أَصحابَه ، فإِذا ظفرتَ بواحدٍ
منهم أو جماعةٍ فأعطِهم هذهِ الثّلاثةَ آلاف درهمٍ ، وقلْ لهم : استعينوا
بها على حرب عدوِّكم ، وأعلِمْهم أنّكَ منهم ، فإِنّكَ لو قد أعطيتَها
إِياهم لقدِ اَطمأنوا إِليكَ ووثقوا بكَ ولم يكتموكَ شيئاً من أخبارِهم ،
ثمّ اغدُ عليهم ورُح حتّى تعرفَ مستقرَّمسلم بن عقيلٍ ، وتدخلَ عليه.
ففعلَ ذلكَ وجاءَ حتّى جلسَ إِلى مسلمِ بنِ عَوْسَجةَ الأسديّ في المسجدِ
الأعظمِ وهو يصلِّي ، فسمعِ قوماً يقولونَ : هذا يبايعُ للحسينِ ، فجاءَ
فجلسَ إِلى جنبهِ حتّى فرغ من صلاتِه ، ثمّ قالَ : ياعبدَ اللهِّ ! إِنِّي
امرؤٌ من أهلِ الشّامِ ، أنعمَ اللهُّ عليَّ بحبِّ أهلِ هذا البيتِ وحبِّ
مَنْ أحبَّهم ؛ وتَباكى له وقالَ : معي ثلاثة آلافِ درهمٍ ، أردتُ بها
لقاءَ رجلٍ منهم بلغَني أنّه قدمَ الكوفةَ يبايعُ لابنِ بنتِ رسولِ اللّهِ ،
فكنتُ أُريدُ لقاءه فلم أجدْ أَحداً يدلُّني عليه ولا أعرفُ مكانَه ،
فإِنِّي لجالسٌ في المسجدِ الان إِذْ سمعتُ نفراً منَ المؤمنينَ يقولونَ :
هذا رجلٌ له علمٌ بأَهلِ هذا البيتِ ، ِوانِّي أتيتُكَ لتقبضَ منَي هذا
المالَ وتُدخِلني على صاحبكَ ، فإِنما أنا أَخٌ من إِخوانِكَ وثقةٌ عليكَ ،
وِان شئتَ أخذتَ بيعتي له قبَلَ لقائه.
فقالَ له مسلمُ بنُ عوسجة رحمه اللّه : احمد اللهَّ على لقائكَ إِيّايَ
فقد سرَني ذلكَ ، لتنال الّذي تحبُّ ، ولينصر اللّهُ بكَ أهلَ بيتِ نبيِّه
عليه والهِ السّلامُ ، ولقد ساءَني معرفةُ النّاسِ إِيّايَ بهذا إلأَمر
قبلَ أَن يتمَّ ، مخافةَ هذا الطاغيةِ وسطوته ؛ فقالَ له معقلٌ : لا يكون
إلأ خيراً، خُذِ البيعةَ عليَّ ، فأَخذَ بيعتَه وأَخذَ عليه المواثيقَ
المغلَّظةَ لَيُناصِحَنَّ ولَيَكْتُمَنَّ ، فأَعطاه من ذلكَ ما رضيَ به ،
ثمّ قال له : اختلفْ إِليَّ أيّاماً في منزلي فأنا طالبٌ لكَ الأذنَ على
صاحبكَ.
فأَخذَ يختلفُ مع النّاسِ ، فطلبَ له الأذنَ فأُذِنَ له ،
فأَخذَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رضيَ اللّه عنه بيعتَه ، وأمرَ أَبا ثُمامةَ
الصائديَّ فقبضَ المالَ منه ، وهو الّذي كانَ يَقبضُ أموالَهمِ وما يُعينُ
به بعضُهم بعضاً، ويشتري لهم السِّلاحَ ، وكانَ بصيراًَ ومن فرسانِ العربِ
ووُجوهِ الشِّيعةِ.
وأَقبل ذلكَ الرّجلُ يختلفُ إِليهم ، وهو أَوّلُ داخلٍ وآخرُ خارج ، حتّى
فَهِمَ ما احتاجَ إِليه ابنُ زيادٍ من أَمرِهم ، وكانَ يُخبرهُ به وقتاً
فوقتاَ. وخافَ هانئً بنُ عُروةَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ على نفسِه فانقطعِ من
حضور مجلسِه وتمارضَ ، فقالَ ابنُ زيادٍ لجلسائه : ما لي لا أَرى هانئاً؟
فقالوا : هو شاكٍ ، فقالَ : لو علمتُ بمرضِه لَعُدْته ، ودعا محمّدَ بنَ
الأشعثِ وأسماءَ بنَ خارجةَ وعمرو بنَ الحجّاجِ الزُّبيديّ ، وكانتْ
رُوَيحةُ بنتُ عمرو تحتَ هانئ بنِ عُروةَ وهي أُمُّ يحيى بن هانئ ، فقالَ
لهم : ما يمنعُ هانئ بنَ عُروةَ من إِتيانِنا؟ فقالوا : ما نَدري وقد قيلَ
إِنّه يشتكي ؟ قالَ : قد بلغَني أنّه قد بَرِىءَ وهو يجلسُ على بابِ دارِه ،
فالْقَوْه ومروه ألاّ يَدَعَ ما عليه من حقِّنا، فإِنِّي لا أحبُّ أن
يَفسدَ عندي مثلُه من أشرافِ العرب.
فأتَوْه حتّى وقفوا عليه عشيّةً وهو جالسُ على بابه ، فقالوا : ما يمنعُكَ
من لقاءِ الأمير؟ فإِنّه قد ذكرَكَ وقالَ : لو أعلمُ أَنّه شاكٍ لَعُدْته ،
فقالَ لهم : الشّكوى تَمنعُني ، فقالوا له : قد بلغَه انّكَ تجلسُ كلَّ
عشيّةٍ على باب دارِكَ ، وقدِ استبطأكَ ، والإبطاءُ والجَفاءُ لا يحتملُه
السًّلطانُ ، أقسَمْنَا عليكَ لمّا ركبتَ معَنا. فدعا بثيابه فلبسَها ثمّ
دعا ببغلتِه فركبَها، حتّى إِذا دنا منَ القصرِ كأنّ نفسهَ أحسّتْ ببعضِ
الّذي كانَ ، فقالَ لحسّان بن أسماء بن خارجة : يا ابن أخي إِنِّي واللّهِ
لهِذا الرّجلِ لَخائفٌ ، فما تَرى؟ قال : أيْ عمّ ! واللهِّ ما أَتخوّفُ
عليكَ شيئاً، ولَمْ تَجعلْ على نفسِك سبيلاً، ولم يكنْ حسّان يعلمُ في
أَيِّ شيءٍ بعثَ إِليه عبيدُاللّهِ.
فجاءَ هانئ حتّى دخلَ على ابنِ زيادٍ ومعَه القومُ ، فلمّا طلعَ قالَ ابنُ زيادٍ : أتَتْكَ بحائنٍ رِجلاه.
فلمّا دنا من ابنِ زيادٍ - وعندَه شُريحٌ القاضي - التفتَ نحوَه فقالَ :
أُريدُ حِبَاءهُ وَيُرِيْدُ قَتْلي عَذِيْرَكَ مِنَ خَلِيْلِكَ مِنْ
مُرَادِ
وقد كانَ أوّل (مادخلَ)عليه مُكرِماً له مُلطِفاً، فقالَ له هانئ : وما
ذلكَ أيًّها الأَميرُ؟ قالَ : إٍ يهٍ يا هانئ بنَ عُروِةَ، ما هذهِ الأمورُ
الّتي تَرَبّصُ في دارِكَ لأَميرِ المؤمنين وعامّةِ المسلمين ؟ جئتَ بمسلم
بنِ عقيلٍ فأَدخلتَه دارَك وجمعتَ له السِّلاحَ والرجالَ في الدُّورِ
حولَكَ ، وظننتَ أَنّ ذلكَ يخفى عليّ ، فقالَ : ما فعلتُ ، وما مسلم عندي ،
قالَ : بلى قد فعلتَ.
فلمّا كثرَ ذلكَ بينَهما، وأَبى هانئ إلاّ
مجاحَدَتَه ومنُاكَرتَه ، دعا ابنُ زيادٍ مَعْقِلاً - ذلكَ العَيْنَ -
فجاءَ حتّى وقفَ بين يديه ، فقالَ : أَتعرفُ هذا؟ قالَ : نعم ، وعلمَ هانئ
عندَ ذلكَ أَنّه كانَ عيناً عليهم ، وأَنه قد أَتاه بأَخبارِهم ، فأُسقطَ
في يدِه ساعةً ثم راجعتْه نفسه فقالَ : اسمعْ مني وصدَقْ مقالتي ، فواللهِّ
لا كذبتُ ، واللهِ ما دعوتُه إِلى منزلي ، ولا علمتُ بشيءٍ من أَمرِه حتّى
جاءَني يسأَلني النُزولَ فاستحيَيْتُ من ردِّه ، ودخلنَي من ذلكَ ذمامٌ
فضيَّفْتُه واويتُه ، وقد كانَ من أَمرِه ما كانَ بلغَكَ ، فإِن شئتَ أن
أعطيَكَ الآنَ مَوْثقاً مُغَلَّظاً ألاّ أَبغيَكَ سوءاً ولا غائلةً،
ولآتِيَنَّكَ حتّى أَضعَ يدي في يدِكَ ، ِوان شئتَ أَعطيتُكَ رهينةً تكونُ
في يدِكَ حتّى آتيَكَ ، وأَنطلق إِليه فآمره أن يخرجَ من داري إِلى حيثُ
شاءَ منَ الأَرضِ ، فأَخرج من ذمامِه وجوارِه.
فقالَ له ابنُ زيادٍ :
واللهِّ لا تفارقني أبداً حتّى تَأْتِيَني به ، قالَ : لا واللهِ لا آتيكَ
به أبداً، أجيئُكَ بضيفي تَقتلُه ؟ ! قالَ : واللّهِ لَتَأْتِيَنَّ به ،
قالَ : لا واللّهِ لا آتيكَ به.
فلمّا كثرَ الكلامُ بينَهما قامَ مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ - وليسَ
بالكوفةِ شاميٌ ولا بصريٌّ غيره - فقالَ : أصلحَ اللهُّ الأميرَ، خلِّني
وِايّاه حتّى أُكَلِّمَه ، فقامَ فخلا به ناحيةً من ابنِ زيادٍ ، وهما منه
بحيثُ يَراهما ، وِاذا رفعا أصواتَهما سمعَ ما يقولانِ ، فقالَ له مسلمٌ :
يا هانئ إِنِّي أنْشُدُكَ اللهَ أن تقتلَ نفسَكَ ، وأنْ تُدخِلَ البلاءَ
على عشيرتِكَ ، فواللّهِ إِنّي لأنْفَسُ بكَ عنِ القتلِ ، إِنّ هذا الرّجلَ
ابنُ عمِّ القوم وليسوا قاتِليه ولا ضائريه ، فادفعْه إِليه فإِنّه ليسَ
عليكَ بذلكَ مَخزاةٌ ولا مَنقصةٌ ، إِنّما تَدفعُه إِلى السُّلطانِ.
فقالَ هانئ : واللهِّ إِنّ عليَّ في ذلكَ للخزي والعار، أنا أدفعُ جاري
وضيفي وأنا حيٌّ صحيحٌ أسمعُ وأرى، شديدُ السّاعدِ، كثيرُ الأعوانِ ؟ !
واللهِّ لو لم أكن إلاّ واحداَ ليسَ لي ناصرٌ لم أدفعْه حتّى أموتَ دونَه.
فأخذَ يُناشدُه وهو يقولُ : واللّهِ لا أدفعُه أبد.
فسمعَ ابنُ زيادٍ ذلكَ فقالَ : أدْنُوه منِّي ، فادْنيَ منه فقالَ :
واللّهِ لَتَأْتِيَنِّي به أو لأضْربَنَ عُنقَكَ ، فقالَ هانئ : إِذاً
واللّهِ تكثر البارِقة حولَ دارِكَ فقالَ ابنُ زيادٍ : والهفاه عليكَ !
أبالبارِقةِ تُخوِّفُني ؟ وهو يظنُّ أنّ عشيرتَه سيمنعونه ؛ ثّم قالَ :
أدْنُوه منيِّ ، فادنِيَ ، فاعترضَ وجهَه بالقضيبِ فلم يَزَلْ يَضربُ وجهَه
وأنفَه وجبينَه وخدَّه حتّى كَسرَ أَنفَه وسَيَّلَ الدِّماءَ على ثيابِه ،
ونثرَلحمَ خدِّه وجبينهِ على لحيتهِ ، حتّى كسرَ القضيب.
وضربَ هانئ
يدَه إِلى قائم سيفِ شُرَطِيٍّ ، وجاذبَه الرّجلُ ومنَعه ، فقالَ
عبيدُاللّهِ : أَحَرُوْرِيٌّ سائرَ اليوم ؟ قد حلَّ لنا دمُكَ ، جرُّوه ،
فَجرَّوه فألقَوْه في بيتٍ من بيوتِ الدّارِ، وأَغلقوا عليه بابَه ، فقالَ :
اجعلوا عليه حَرَساً، ففُعِلَ ذلكَ به ، فقام إِليه حسّانُ بنُ أَسماء
فقالَ له : أرُسُلُ غَدْرٍ سائرَ اليوم ؟ أَمرْتَنا أَن نجيئكَ بالرّجلِ ،
حتّى إِذا جئناك به هَشَمْت وجهَه وسيَّلتَ دماءه على لحيتِه ، وزعمتَ
أَنّكَ تقتلُه.
فقالَ له عُبيدُاللهِّ : ِوانّكَ لَهاهنا، فأَمَرَ به فلُهِز وتُعْتِعَ ثمّ أُجلسَ ناحيةً.
فقالَ محمّدُ بنُ الأشعثِ : قد رَضِيْنا بما راه الأَميرُ، لنا كانَ أَو
علينا ، إِنّما الأميرُ مؤدِّبٌ.
وبلغَ عمرو بنَ الحجّاجِ أَنّ هانئاً قد قُتِلَ ، فأَقبلَ في مَذْحِج حتّى
أَحاطَ بالقصرِ ومعَه جمعٌ عظيمٌ ، ثمّ نادى : أَنا عمرو بنُ الحجّاجِ ،
وهذه فُرسانُ مَذْحِج ووُجوهُها ، لم تَخلعْ طاعةً ، ولم تُفارقْ جماعةً ،
وقد بلغَهم أَنّ صاحبَهم قد قُتِلَ فأَعظَموا ذلكَ.
فقيلَ لعبيدِاللّهِ
بنِ زيادٍ : هذه مَذْحِج بالباب ، فقال لشريحٍ القاضي : ادخلْ على صاحبهم
فانظُرْ إِليه ، ثمّ اخرُجْ وأَعلِمْهم أَنّه حيٌّ لم يُقتَلْ.
فدخلَ
فنظرَ شُريحٌ إِليه ، فقالَ هانئ لمّا رأَى شُريحاً : يا للهِّ ! يا
للمسلميمنَ ! أَهَلَكَتْ عشيرتي ؟ ! أَينَ أَهلُ الدِّين ؟ ! أَينَ أَهلُ
البَصَر؟ ! والدِّماءُ تَسيلُ على
لحيتِه ، إِذ سمعَ الرّجّةَ على باب القصرِ فقالَ : إِنِّي لأَظنُّها
أَصواتَ مَذْحِج وشيعتي منَ المسلمينَ ،َ إِنّه إِن (دَخَلَ عليّ) عشرةُ
نفرٍ أَنقذوني.
فلمّا سمعَ كلامَه شُريحٌ خرجَ إِليهم فقالَ لهم : إِنّ
الأميرَ لمّا بلغَه مكانُكم ومقالتُكم في صاحبكم ، أَمرَني بالدُّخولِ
إِليه فأتيتُه فنظرت إِليه ، فأَمرَني أَن أَلقاكم وأَن أًّعلمَكم أنّه
حيٌ ، وأَنّ الّذي بلغَكم من قتلِه باطل ، فقالَ عمرُو بنُ الحجّاجِ
وأَصحابُه : أَمّا إِذْ لم يُقْتَلْ فالحمدُ للّهِ ، ثمّ انصرفو.
وخَرجَ عبيدُاللّهِ بن زيادٍ فصعدَ المنبرَ، ومعَه أَشرافُ النّاس وشُرَطهُ وحَشَمُه ، فقالَ :
أَمّا بعدُ : أَيُّها النّاسُ فاعتصِمُوا بطاعةِ اللّهِ وطاعةِ أئمّتِكم ،
ولا تَفرقوا فتَهلِكُوا وتَذِلُّوا وتُقْتَلوا وتُجْفَوا وتًحرَبوا، إِنَّ
أَخاك منْ صَدَقَكَ ، وقد أَعذَرَ مَنْ أنذَرَ. ثمّ ذهبَ لِيَنزلَ فما
نزلَ عنِ المنبرِحتّى دخلتِ النّظّارةُ المسجدَ من قِبَلِ باب التّمّارينَ
يَشتدُّون ويَقولونَ : قد جاءَ ابنُ عقيلٍ !قد جاءَ ابنُ عقيلٍ !فدخل
عبيدُاللّهِ القصرَمُسرِعاً وأَغلقَ أبوابَه.
قالَ عبدُاللّه بن حازمٍ : أنا واللهِّ رسولُ ابنِ عقيلٍ إِلى القصرِ
لأنظرَ ما فعلَ هانئ، فلمّا حُبِسَ وضُرِبَ ركبتُ فرسي فكنتُ أَوّلَ أَهل
الدَّارِ دخلَ على مسلمِ بنِ عقيلٍ بالخبرِ، فإِذا نِسوةٌ لِمُرَاد
مُجتمعات يُنادِيْنَ : يا عَبرتاه ! يا ثُكلاه ! فدخلتُ على مسلمِ بنِ
عقيلٍ فأخبرتُه فأَمرَني أَن أُناديَ في أصحابِه وقد ملأ بهم الدُّورَ
حولَه ، وكانوا فيها أَربعةَ آلافِ رجلٍ ، فناديتُ : يا منصورُ أمِتْ ،
فتَنادى أهل الكوفةِ واجتمعوا عليه ، فعقدَ مسلمٌ لرؤوسِ الأرباعِ على
القبائل كِنْدَةَ ومَذْحِجَ وأسَدَ وتَمِيْمَ وهَمْدَانَ ، وتَداعى النّاسُ
واجتمعوا، فما لبثْنا إلاّ قليلاً حتّى امتلأ المسجدُ منَ النّاسِ
والسُّوقُ ، وما زالوا يَتَوَثَّبون حتّى المساءِ ، فضاقَ بعبيدِاللهّ
أمرُه ، وكانَ أَكثر عملِه أن يُمسِكَ بابَ القصر وليسَ معَه في القصرِ
إلاّ ثَلاثونَ رجلاً منَ الشُّرَطِ وعشرونَ رجلاً من أشرافِ النّاسِ وأهلِ
بيتهِ وخاصّته ، وأقبلَ مَنْ نأَى عنه من أشرافِ النّاسِ يأْتونَه من قِبَل
الباب الّذي يلي دارَ الرُّوميِّينَ ، وجعلَ مَنْ في القصرِ معَ ابن زيادٍ
يُشرِفونَ عليهِمَ فينظرونَ إِليهم وهم يرمونَهم بالحجارةٍ ويَشتمونَهم
ويَفترونَ على عبيدِاللهِّ وعلى أبيه.
ودعا ابنُ زيادٍ كَثِيرَ بنَ شهابِ وأمرَه أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من
مَذْحِج ، فيسيرَ في الكوفةِ ويخذِّلَ النّاَسَ عنِ ابن عقيلٍ ويخوِّفَهم
الحربَ ويحذِّرَهم عقوبةَ السُّلطانِ ، وأَمرَ محمّدَ بنَ الأشعثِ أن
يَخرجَ فيمن أطاعَه من كِنْدةَ وحَضْرَمَوْتَ ، فيرفعَ رايةَ أمانٍ لمن
جاءه منَ النّاسِ ، وقالَ مثلَ ذلكَ للقَعْقاعِ الذُّهْليِّ وشَبَثِ بنِ
رِبعيٍّ التّميميِّ وحَجّارِبن أبجَر العِجليِّ وشمرِ بنِ ذي الجوشنِ
العامريِّ ، وحبسَ باقيَ وجوهِ النّاسِ عندَه استيحاشاً إِليهم لقلّةِ عددِ
من معَه منَ النّاس.
فخرجَ كَثيرُبنُ شِهابٍ يُخذِّلُ النّاسَ عنِ ابنِ عقيلٍ ، وخرجَ محمّدُ
ابنُ الأشعثِ حتّى وقفَ عندَ دُورِ بني عُمارةَ، فبعثَ ابنُ عقيلٍ إِلى
محمّدِ ابن الأشعثِ منَ المسجدِ عبدَ الرّحمن بن شريحٍ الشِّباميّ ، فلمّا
رأَى ابنُ الأشعثِ كثرةَ من أَتاه تأَخّرَ عن مكانِه ، جعلَ محمّدُ بنُ
الأشعثِ وكثِيرُبنُ شِهابِ والقَعْقَاعُ بنُ شَوْر الذُّهليّ وشَبَثُ بنُ
رِبعيٍ يَرُدُّونَ النّاسَ عنِ اللحوقِ بمسلمٍ ويخوِّفونَهمُ السُّلطانَ ،
حتّى اجتمعَ اليهم عددٌ كثيرٌ من قومِهم وغيرهم ، فصاروا إِلى ابنِ زيادٍ
من قِبَلِ دارِ الرُّومييّنَ ودخلَ القوم معَهم ، فقالَ له كَثِيرُبنُ
شهابٍ : اصلح اللهُّ الأَميرَ، معَكَ في القصرِ ناسٌ كثيرٌ من أشرافِ
النّاسِ ومن شُرَطِكَ واهلِ بيتِكَ ومَواليكَ ، فاخرُجْ بنا إِليهم ، فأبى
عُبيدُاللّهِ ؟ وعقدَ لشَبَث بن رِبْعيٍّ لواءً فأَخرجَه.
وأقامَ النّاس معَ ابنِ عقيلٍ يَكثرونَ حتّى المساءِ وأَمرُهم شديدٌ ،
فبعثَ عُبيدُاللهِّ إِلى الأَشرافِ فجمعَهم ، ثمّ أَشرفوا على النّاسِ
فَمَنَّوا أَهلَ الطّاعةِ الزِّيادةَ والكرامةَ ، وخَوَّفوا أهلَ العصيانِ
الحرمانَ والعقوبةَ ، وأَعلَموهم وصولَ الجندِ منَ الشّام إِليهم.
وتكلّمَ كَثِيرٌ حتّى كادتِ الشّمسُ ان تَجبَ ، فقالَ : أيُّها النّاسَُ
الحقوا بأهاليكم ولا تَعَجَّلوا الشّرَّ، ولا تُعَرِّضواَ أنفسَكم للقتل ،
فإِنَّ هذه جنودُ أميرِ المؤمنينَ يزيدَ قد أقبلتْ ، وقد أعطى اللهَّ
الأميرُ عهدا ً: لئن تَمَّمْتًم على حربه ولم تَنصرِفوا من عشيّتِكم (أن
يَحْرِم) ذُرِّيَّتَكم العطاءَ، ويُفرِّقَ مُقاتِلتًكم في مَغازي الشّامِ ،
وأن يأخذَ البريءَ بالسّقيمِ والشّاهدَ بالغائبِ ، حتّى لا
تبقى له بقيّةٌ من أَهلِ المعصيةِ إلاّ أذاقَها وبالَ ما جنتْ أيديه.
وتكلّمَ الأشرافُ بنحوٍ من ذلكَ.
فلمّا سمعَ النّاسُ مقالَهم أخذوا يتفرّقونَ ، وكانتِ المرأةُ تأْتي ابنَها
أَو أَخاها فتقولُ : انْصَرِفْ ، النّاسُ يَكفونَكَ ؛ ويجيءُ الرّجلُ إِلى
ابنهِ وأَخيه فيقولُ : غداً يأْتيكَ أَهلُ الشّام ، فما تَصنعُ بالحرب
والشّرِّ؟ انْصَرِفْ ؛ فيذهبُ به فينصرفُ.
فما زالَوا يتفرّقون حتّى
أمسَى ابنُ عقيلِ وصلّى المغربَ وما (معَه إلاّ ثلاثونَ) نَفْساً في
المسجدِ، فلمّا رأى أَنّه قد أًمسى وما معَه إلاّ أُولئكَ النّفرُ، خرجَ
منَ المسجدِ متوجِّهاً نحوَ أَبواب كِنْدةَ، فما بلغَ الأَبوابَ ومعَه منهم
عشرة، ثمّ خرجِ منَ الباب فإذا لَيسَ معَه إِنسانٌ ، فالتفتَ فإِذا هو لا
يُحِسُّ أَحداًَ يَدُلّه علىَ الطّريقِ ، ولا يَدُلًّه على منزلِه ، ولا
يُواسيه بنفسِه إِن عرضَ له عدوّ.
فمضى على وجهِه مُتَلدَداً في أَزِقّةِ الكوفةِ لا يدري أينَ يذهبُ ، حتّى
خرجَ إِلى دورِ بني جَبَلَةَ من كنْدَةَ، فمشى حتّى انتهى إِلى بابِ
امرأةٍ يُقالُ لها : طَوْعَةُ، أُمُّ ولدٍ كانتْ للأَشعثِ بنِ قيسٍ
فأعتقَها، فتزوّجَها أسَيْدٌ الحضرميُّ فولدتْ له بِلالاً، وكان بِلالٌ قد
خرجَ معَ النّاسِ فأُمُّه قائمةٌ تنتظرة ؛ فسلّمَ عليها ابنُ عقيلٍ فردّت
عليه فقالَ لها: يا أَمةَ اللّهِ اسقيني ماءً، فسقتْه وجلسَ وأَدخلتِ
ألإناءَ، ثمّ خرجتْ فقالتْ : يا عبدَاللّهِ ألم تشربْ ؟ قالَ : بلى، قالتْ :
فاذهبْ إِلى أَهلِكَ ، فسكتَ ثمّ أعادتْ مثلَ ذلكَ ، فسكتَ ، ثمّ قالتْ له
في الثّالثةِ : سُبحانَ اللهِّ ! يا عبدَ اللّهِ قُمْ عافاكَ اللّهُ إِلى
أَهلِكَ فإِنّه لا يَصلحُ لكَ الجلوسُ على بابي ، ولا أُحِلُّه لكَ.
فقامَ وقالَ : يا أَمةَ اللهِّ ما لي في هذا المِصر منزلٌ ولا عشيرةٌ ،
فهل لكِ في اجرٍ ومعروفٍ ، لعلِّي مُكافئًكِ بعدَ اليوم ، فقالتْ : يا
عبدَاللّهِ وما ذاكَ ؟ قالَ : أَنا مسلمُ بنُ عقيلٍ كَذَبَني هؤَلاءِ
القومُ وغَرُّوني وأَخرجوني ؟ قالتْ : أَنتَ مسلمٌ ؟ قالَ : نعم ؛ قالتْ :
ادخُلْ ، فدخلَ بيتاً في دارِها غيرِ البيتِ الّذي تكونُ فيه ، وفرشتْ له
وعرضتْ عليه العَشاءَ فلم يَتَعَش.
ولم يكنْ بأَسرعَ أَن جاءَ ابنها، فرآها تُكثِرُ الدُّخولَ في البيتِ
والخروجَ منه ، فقالَ لها: واللّهِ إِنّه لَيَرِيبُني كثرةُ دخولكِ هذا
البيتَ منذُ الليلةِ وخروجِكِ منه ؛ إِنّ لكِ لَشأناً؛ قالتْ : يا بُنَيَّ
الْه عن هذا؛ قالَ : واللهّ لَتخبرينني ؛ قالتْ : أَقبلْ على شأْنِكَ ولا
تسأَلنْي عن شيءٍ ، فَألح عليها فقالتْ : يا بُنَيّ لاَ تُخْبرَنَ أَحدآً
منَ النّاسِ بشيءٍ مما أُخبركُ به ؛ قالَ : نعم ، فأَخذتْ عليه اَلأَيمانَ
فحلفَ لها، فأَخبرتْه فاضطجعَ وسكتَ.
ولمّا تفرّقَ النّاسُ عن مسلمِ بنِ عقيلٍ طالَ على ابنِ زيادٍ وجعلَ لا
يَسمعُ لأَصحاب ابن عقيل صوتاً كما كانَ يَسمع قبلَ ذلكَ ؛ قال لأصحابه :
أشرِفُوا فانظُرُوا ، هل تَرَوْنَ منهم أحداًَ؟ فأشرفوا فلم يَرَوْا أَحداً
، قالَ : فانظُرُوا لعلّهم تحتَ الظلالِ وقد كَمنوا لكم ، فنزعوا تَخاتجَ
المسجدِ وجعلوا يخفضونَ شُعَلَ النّارِ في أَيديهم ويَنظرونَ ، فكانتْ
أَحيانا تُفيءُ لهم واحياناً تُضيءُ كما يُريدونَ ، فدلَّوُا القناديلَ
(وأَطنانَ القصب تًشَدُّ) بالحبالِ ثمّ تُجعلُ فيها النيرانُ ثمّ تُدلّى
حتّى تنتهيَ إِلى الأَرَض ، ففعلوا ذلكَ في أقصى الظَلال وأَدناها
وأَوسطِها حتّىٍ فُعِلَ ذلكَ بالظُّلّةِ الّتي فيها المنبر، فلمّا لم
يَرَوْا شيئاً أعلموا ابنَ زيادٍ بتفرّقِ القومِ ، ففتحَ بابَ السُّدّةِ
الّتي في المسجدِ ثمّ خرجَ فصعدَ المنبرَ وخرجَ أَصحابهُ معَه ، فأمرَهم
فجلسوا قُبَيل العَتَمةِ وأَمرَ عمرو بنَ نافع فنادى : أَلا بَرِئَتِ
ألذِّمّةُ من رجلٍ منَ الشّرَطِ والعُرفَاءِ والمنَاكب أَو المقاتِلةِ
صلّى العتمة إلاّ في المسجدِ، فلم يكنْ إلاّ ساعة حتى امتَلأ المسجدُ منَ
النّاسِ ، ثمّ أَمرَ مناديَه فأَقامَ الصّلاةَ ، وأَقامَ الحرسَ خلفَه
وأَمرَهم بحراسته من أَن يَدخلَ عليه أَحدٌ يَغتالهُ ، وصلىّ بالنّاس ثمّ
صعدَ المنبرَ فحمدَ اللهَّ وأَثنى عليه ثمّ قالَ :
أمَّا بعدُ : فإِنّ ابن عقيلٍ السّفيهَ الجاهلَ قد أَتى ما قد رأَيتم منَ
الخلافِ والشِّقاقِ ، فبَرئَتْ ذمّةً اللهِّ من رجلٍ وجدناه في دارِه ، ومن
جاءَ به فله دِيَتُه ، واتّقوا اللّهَ عبادَ اللّهِ والزموا طاعتَكم
وبيعتَكم ، ولا تجعلوا على أنفسِكم سبيلاًَ. يا حُصَينَ بنَ نُميرٍ ،
ثكلتْكَ أُمُّكَ إِن ضاعَ باب سكّةٍ من سككِ الكوفةِ، أوخرجَ هذا الرجلُ
ولم تأْتِني به ، وقد سلّطتُكَ على دورِ أَهلِ الكوفةِ، فابعثْ مراصدَ على
أهلِ السِّككِ ، وأصبحْ غداً فاسْتبِرِ الدُّورَ وجُسْ خلالَها حتّى
تأْتيني بهذا الرّجلِ.
وكانَ الحُصينُ بنُ نُميرٍ على شرَطِه وهومن بني تميم.
ثمّ دخلَ ابنُ زيادٍ القصرَ، وقد عقدَ لعمرو بنِ حُرَيثٍ رايةً وأمَّره على النّاسِ.
فلمّا أصبحَ جلسَ مجلسَه وأَذنَ للنّاسِ فدخلوا عليه ، وأقبلَ محمّدُ بنُ
الأَشعثِ ، فقالَ : مرحباً بمن لا يُسْتَغَشُّ ولا يُتَّهَمُ ، ثمّ أقعدَه
إِلى جنبِه.
وأصبحَ ابنُ تلكَ العجوز فغدا إِلى عبدِ الرحمنِ بنِ محمّدِ بن الأشعثِ
فأخبره بمكانِ مسلمِ بنِ عقيلٍ عندَ أُمِّه ، فأَقبلَ عبدُ الرّحمنِ حَتّى
أَتى أباه وهو عندَ ابنِ زيادٍ فسارَّه ، فعرفَ ابنُ زيادٍ سِراره فقالَ له
ابنُ زيادٍ بالقضيب في جنبِه : قُمْ فائتني به السّاعةَ، فقامَ وبعثَ معَه
قومه ، لأنّه قد علمَ أنَّ كلَّ قومٍ يَكرهونَ أن يصابَ فيهمِ (مسلمُ بنُ
عقيل) ، فبعثَ معَه عبيدَاللّه بن عبّاسٍ السُّلميّ في سبعين رجلاً من قيسٍ
، حتّى أتَوُا الدّارَ الّتي فيها مسلمُ بنُ عقيلٍ رحمَه اللهًّ ، فلمّا
سمعَ وَقْعَ حوافرِ الخيلِ وأَصواتَ الرِّجالِ علمَ أَنّه قد أُتيَ ، فخرجَ
إِليهم بسيفِه ، واقتحموا عليه الدًارَ، فشدَّ عليهم يَضرِبُهم بسيفهِ
حتّى أَخرجَهم منَ الدّارَ، ثمّ عادوا إِليه فشدَّ عليهم كذلكَ ، فاختلفَ
هو وبكرُ بنُ حُمرانَ الأَحمريّ فضربَ فمَ مسلمٍ فشقً شفتَه العُليا
وأَسرعِ السّيفُ فِى السًّفلى ونَصَلَتْ له ثَنِيَّتاه ، وضربَه مسلمٌ في
رأسِه ضربةَ مُنكَرةً وثنّاه بأخرى على حبلِ العاتقِ كادتْ تَطلعُ على
جوفِه ، فلمّا رأوا ذلكَ أشرفوا عليه من فوقِ البيتِ فأَخذوا يَرمونَه
بالحجارةِ ، ويُلهِبونَ النّارَ في أطنانِ القصبِ ثمّ يُلقونَها عليه من
فوقِ البيتِ ، فلمّا رأَى ذلكَ خرجَ عليهم مُصلِتاً بسيفِه في السِّكّةِ،
فقالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ : لكَ الأمانُ ، لا تَقتلْ نفسَكَ ؟ وهو
يُقاتِلهُم ويقولُ :
أقْسَمْــــتُ لا أُقـْـتَلُ إِلا حـــُرُّا إِنِّيْ رَأَيْتُ المْوَتَ شَيْئَاً نُكْرَاُ
ويجعَلُ الْبَارد َسُخْنَا ًمُرًا رُدَّ شُعَــاعُ الـشَّمْسِ فــاستقرَّا
كلّ امْرِىءٍ يَوْمَاً مُلاَقٍ شــرًّا أَخــَـافُ أَنْ أُكـــْذَبَ أَوْ أُغـــــَرَّا
فقالَ له محمّدُ بنُ الأَشعثِ : إِنّكَ لا تُكذَب ولا تُغَّرُ، فلا تَجزعْ ، إِنّ القومَ بنو عمِّكَ وليسوا بقاتِليكَ ولا ضائريكَ .